شكرا لسماحة مفتي المملكة الشيخ عبدالكريم الخصاونة، لإصداره فتوى تذكّر بجواز تعزية المسلمين غير المسلمين، وبذلك وضع حدا رسميا لحمم الحقد الأعمى والكراهية والجهل التي تفجّرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بعد ذبول شاب في عمر الورود.
هذا التحرك الفوري كان مطلوبا للجم وصلات الخزي والعار والشماتة -على محدوديتها- التي أطلقها كارهو الحياة الملوثون بفكر داعشي، وسط سيل التعازي والمواساة من الأردنيين الشرفاء، حزنا على رحيل الشاب شادي أبوجابر بحادث مروّع بينما كان في طريقه مساء الخميس ليعزف قيثارته للفرح والحياة.
هذه الفئة التحريضية الإقصائية تقيم بيننا في وطن بني أساسا لاحتضان الأردنيين كافة، وتقديم أنموذج فريد للانصهار المجتمعي، مقابل ظلال التطرف الديني والفكري والاجتماعي الذي بات يتسع بسرعة جنونية على امتداد المنطقة الجاثمة فوق بارود من العنصرية والطائفية.
صليات مؤذية ومعيبة مسّت صميم المسلّمات والهوية الجامعة، وهزّت أنموذج العيش المشترك الراسخ والتعددية التي أكسبت هذه المملكة المعتدلة صبغة مدنية؛ "الدين لله والوطن للجميع"، وفي النص الدستوري: الجميع أمام القانون متساوون بغض النظر عن الدين والعرق واللغة. وطن نهض على أكتاف البناة الأوائل؛ مسلمين ومسيحيين من عشائر الوطن وسائر العرب، يدا بيد مع الشركس والشيشان والأرمن.
لكن بعد مائة عام على رص المداميك الأول، يجد الأردنيون أنفسهم أمام فئة متزمتة لكن صوتها عال، استمرأت الإقصاء والفرز الديني والمذهبي، وتحاول الآن تنفيذ مآربها مستغلة أحداث الإقليم وما تسمعه من الطائفيين. فهل يعقل أن تضطر حكومة د. هاني الملقي لقرع جرس الطوارئ والطلب من سماحة المفتي إصدار فتوى تجيز ما نشأ عليه الأردنيون جميعا من سجايا وقيم ورثوها كابرا عن كابر في المدن والأرياف ومرابع البدو؟
للأسف نعم. فلو لم تتحرك الحكومة لأثّر ذلك على نسيج المجتمع المبني على التعددية والتنوع. ولكانت اتهمت بأنها ضعيفة تفضّل "الطبطبة" على مسألة حساسة بحجم "إشكالية الدين". ولتناسلت جرأة الدواعش المعشعشين بيننا في سب وشتم وتحقير من لا يشبههم لأنهم على يقين أن الحكومة لن تتحرك بسبب حساسية الملف.
لجوء الحكومة إلى الإفتاء لقطع الطريق على مدّعين من الجهلاء والحاقدين أثار مشاعر حزن وأسى لدى غالبية الأردنيين، المؤمنين بالهوية الجامعة التي تحمي كرامة الإنسان على أساس "كلنا أردنيون" وقوتنا في تنوعنا.
بموازاة تحرك الحكومة، أصدر الشعب فتوى موازية تمثلت بتحرك النبلاء والنبيلات على مواقع التواصل الاجتماعي لتقريع مثيري الفتنة ومروجي الكراهية. زاروا بيت العزاء وشاركوا في الصلاة على جثمان شادي بحضور الشيخ حمدي مراد من المركز الأردني لدراسات التعايش الديني، وقد شارك أيضا في الترانيم.
نشعر اليوم بأننا نحصد ثمار مناهج التجهيل المحشوة بالفكر الإقصائي والتطرف ورفض الآخر؛ مفاهيم مرعبة دُست كالسم في الكتب المدرسية، بحيث تنغرس في عقول صغارنا وتعشعش في المجتمع، في تناقض مع قيمه المبنية على الوسطية والاعتدال والانفتاح. مفاهيم دخيلة تشجعها دول في المنطقة تلعب على وتر الدين وتقسيم الناس إلى ملل وطوائف، وتساعد على انتشارها مناهج أخرجت الفن والدراما والمسرح والسينما من قاموس الأنشطة المدرسية، مع أنها أساسية لغرس ثقافة قبول الآخر وتعزيز مفاهيم الوسطية والاعتدال واحترام إنسانية الإنسان من مختلف الأديان.
علينا التحرك بسرعة. فبعد سيل التصريحات الرسمية حول مراجعة المناهج في عهد الحكومة السابقة ضمن استراتيجية بلورتها أجهزة الدولة لمواجهة مدّ الفكر الداعشي عسكريا وأيديولوجيا، ما تزال كتب أطفالنا محشوة بافتراءات وتوجهات خطيرة تنذر بتقويض الهوية الوطنية الجامعة وأسس الدولة المدنية. ترك مراجعة المناهج لوزارة التربية والتعليم -وتحديدا اللغة العربية والتاريخ والتربية الوطنية والتربية الدينية- لن يجدي نفعا، لأن الوزارة هي الحكم والخصم بعد سيطرة شريحة معينة عليها منذ أربعة عقود لخدمة مشروعها السياسي باسم الدين. منهاج التربية الوطنية للصف الواحد يؤسس لإلغاء مفهوم المساواة في المواطنة المكفولة دستوريا.
أزيلت من مناهجنا محطات كاملة من تاريخ العرب؛ مسلمين ومسيحيين. لم تعد تذكر شخصية "عيس العوام"؛ ذلك القائد العربي الذي حارب مع صلاح الدين الأيوبي ضد الحملات الصليبية! لم تعد مناهجنا تذكر الدور التاريخي للعرب المسيحيين في الفتوحات العربية والإسلامية وبخاصة في فتح بلاد الشام إثر معركتي مؤتة واليرموك، ثم بلاد فارس في معركة القادسية، وما سبقها من معارك جلولاء والبويب، وما تلاها من فتوحات أرمينيا، ومصر وشمال أفريقيا والأندلس. كما لا تأتي على ذكر مشاركة قبائل غسان وجذام ولخم؛ حيث كانت تدين جميعها بالمسيحية في ذلك الوقت، وعملت على استنهاض أبنائها على قاعدة "انصروا أبناء جلدتكم".
ما نعيشه اليوم من انغلاق فكري وتخلف قيمي وتراجع في مناسيب الإنسانية والمنظومة القيمية، يقلق كل مواطن لا يريد العيش في مجتمع بدائي منغلق شبيه بمعايير "داعش" أو "القاعدة"، فيما هي تدّعي حراسة التقوى والإيمان والقيم الدينية المفصلة على مقاسها، والدين منها براء. المسيحيون هنا كالمسلمين؛ عرب أردنيون شيدوا الوطن معا وهم شركاء في ذات المصير وليسوا من سكان المريخ. كلنا ضحايا لفكر "داعش" ومحاولات إعادة المجتمع إلى عصور الجاهلية.
بربكم، كيف يدّعي أي انسان الإيمان إذا كانت علاقته مع الخالق لا تنسحب على معاملته مع الناس؟ في إنجيل متى اقتباس عن يسوع المسيح على الجبل: "إذا قرّبت قربانك إلى الهيكل وذكرت هناك أن لأحد عليك شيء فاترك قربانك على الهيكل وأذهب وصالح أخاك". هذا يدل على قدسية علاقة العبد بأخيه، وأن علاقة التعبد للرحمن الرحيم لا تستقيم إن لم تكن هناك علاقات مستوية مع إخوتنا في البشرية. لم يتحدث عن عربي مسلم أو عربي مسيحي وإنما عن الإنسان. في موقع آخر يقول: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل لأنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والطالحين". ذلك يعني أن رب الكون وخالقه يعطي النور والمطر للإنسان الصالح والطالح، ولذلك لا يقبل أن يقوم الإنسان بوضع الحواجز بينه وبين أخيه في الانسانية.
ما حصل هذا الأسبوع دق ناقوس الخطر. وعلينا التحرك على عدة جبهات.
على الحكومة تسريع تطوير المناهج في الاتجاه الصحيح هذه المرّة، وتحديث الخطاب الديني وتأهيل الأمة والوعاظ وتفعيل قانون الجرائم الإلكترونية ليطال كل من يثير النعرات الطائفية. ويبدو أن لديها استعدادا لأن تنهي التستر في هذه المجالات.
قبل أيام كشف وزير الثقافة الدكتور عادل الطويسي عن خطّة للوزارة بتشكيل مرصد لتتبع الإنتاج الثقافي المتطرف تحت اسم "مرصد التطرف الثقافي". قد يفيد أن تقوم الحكومة بعملية مشابهة لتأسيس مرصد لمحاربة "التطرف باسم الدين". فبحسب د. الطويسي، فإن خطة التنمية الثقافية الثانية 2017-2019 تتضمن اقتراحا بتعديل قانون الجمعيات المرتبطة بوزارة الثقافة لحماية كل من يدعو للاعتدال والوسطية وتجريم من يوجه فكره للتطرف.
ولنرفع صوتنا -مسلمين ومسيحيين- للمطالبة بدولة قائمة على التعددية وروح المواطنة الصالحة وفق توازن الحقوق والواجبات. وعلينا التصدّي للدواعش وتحدّيهم في كل صغيرة وكبيرة عبر استحضار الأمثلة والحقائق التي يزهر بها تاريخنا المشترك والأزلي كشركاء وطن نستفيء بظلّه ونتقاسم لقمة العيش في السراء والضراء.
سماحة الشيخ والشعب الواعي أفتيا
أخبار البلد -