يحكى أن ملك بريطانيا وأيرلندا في الفترة ما بين 1936- 1952 أو الملك جورج السادس اتخذ مع عائلته موقفا شجاعا عندما قرروا البقاء في لندن أثناء الغارات الجوية الألمانية، وأن موقفه هذا اعتبر رمزا للصمود، حيث حظي الملك باحترام شعبه. وفي عهد الملك جورج السادس هذا، شاركت بريطانيا في الحرب العالمية الثانية وخرجت منها منتصرة مظفّرة.
ويروي لي زميلي الصحفي العراقي أحمد الجنابي أن الملك البريطاني هذا، أراد أن يكرّم الجنود من أصول غير بريطانية ممن شاركوا في الحرب وأسهموا في انتصار البلاد ورفعة شأنها وإبقاء رايتها خفاقة في الأعالي.
ويقول صاحبي إنه تقرر دعوة رؤساء الجاليات الأجنبية لحضور مراسم الاحتفال، وإنه كان يرأس الجالية اليمنية في المملكة المتحدة حينئذ شيخ قوي الشكيمة رابط الجأش معتز بأصوله وبأمجاد أمته أينما حط الرحال.
وحيث كان يقتضي البروتوكول الإنحاء أمام الملك البريطاني عند السلام عليه، أعلن رئيس الجالية اليمنية رفضه، وقال "إننا قوم لا ننحني إلا لله"، وأبى أن يُذعِن لمحاولات ثلة من المراسم الملكية حاولت ثنيه عن موقفه، مما حدا بهم إخبار الملك مسبقا بشأن رئيس الجالية اليمني، وذلك كي يتقوا شر ورطة محتملة، خاصة أنه لا يمكنهم استبدال رئيس الجالية الذي ارتأى أن كرامة المرء تعتبر شأنا مقدسا، وحتى في حضرة الملوك.
وأما الملك البريطاني، فأوعز بأن يبقى رئيس الجالية اليمنية في الصف، وأنه لا داعي لانحناءته، مضيفا بالقول، ولكن "أخبروه أن الملك لن يصافحه"، فكان للملك ما طلب.
حضر الملك وتم التكريم وسلم جورج على رؤساء الجاليات الأجنبية المصطفين لاستقباله، وتبادل مع رئيس الجالية اليمنية الابتسام دون مصافحة من هذا، ولا انحناءة من ذاك، وانتهى الاحتفال على خير.
بقي القول إن القصة أعلاه، هي قصة حقيقية، وهي ربما تذكر المرء بأفعال عمنا علي عبد الله صالح، وإن اختلفت المواقف والمعايير، ذلك أن العالم بات يرى عمنا صالح جمعة بعد أخرى ويوما بعد آخر وهو يتفنن في توجيه الإهانات تلو الإهانات لأبناء وبنات الشعب اليمني الأحرار، أو ربما إلى أحفاد من رفض جدهم الإنحاء أمام ملك بريطانيا العظمى –أو أمام إمبراطور الإمبراطورية التي لم تكن تغيب الشمس عن أملاكها- رغم أنه كان يقيم في عقر داره!!
فتارة نرى عمنا صالح واصفا كلام الشعب اليمني الثائر سلميا من أجل الحرية والديمقراطية بالنشاز، وتارة أخرى نراه يأخذه الورع موصيا ملايين أبناء وبنات الشعب اليمني النبلاء بعدم الاختلاط!!!
لا بل إن عمنا صالح بتنا نراه يتهم أبناء وبنات الشعب اليمني الأحرار الثائرين أنفسهم بأنهم قاطعو طرق، ويصفهم بأقذع الصفات، متناسيا أنه معني بشكل مباشر عن ضحاياه الذين قصفهم بالغازات التي قال الأطباء والمختصون إنها مبيدات حشرية وغازات سامة أكثر كم كونها مسيلة للدموع!!
أو ربما نسي عمنا صالح ضحاياه من الشباب اليمني الذين قصفتهم قناصته واصطادتهم في الجمعة الدامية وفي غيرها من الأيام في ساحة التغيير وفي غيرها من الساحات وأنحاء البلاد، وإذا كان عمنا صالح نسي أو تناسى ما فعلته وتفعله يداه الملطختان بدم الشهداء من كل حدب وصوب من اليمن الشقيق، فإن ذاكرة الشعوب ذاكرة قوية، لا ولن تنسى أفعال حكامها أو جرائم قامعيها أو لسعات جلاديها!!
ثم ألا يخيفك أو يرعبك يا عمنا علي تضرّع أمهات وبنات وزوجات الشهداء في كل لحظة بأن ينتقم المولى من قاتليهم وممن كان وراء قاتليهم، فكم من خطايا ستلاقى بها وجه ربك يا عمنا علي، والنصيحة لك أن "ارحل"، ارحل، فقد تجبرت واستبددت وطغوت، أيها الظالمُ شَعبَك ارحل، فالشعب اليمني له في الحضارات العريقة المعروفة مجد وعزة ومكانة، وإنه لا يمكنك والله قهره أو إذلاله، أبدا أبدا، ومهما حاولت، فلن تقدر، ولكن مطلوب منك أن ترحل، وأنت في كل الحالات راحل! وأما دماء الشهداء فستبقى أشباحا تطاردك في كل لحظة، وحتى في المنام، هذا إذا كنت تعرف للنوم طعما!!
وأما العقيد القذافي، فتقول له الشعوب إنه "ما لجرح بميت إيلام"، فهو يبدو في أيامه الأخيرة من الحكم المستبد، وهي لحظاته البائسة الأخيرة في القمع والاستبداد، فهو أيضا تجبر وطغى واستبد أيما تجبر واستبداد بحق أحفاد وحفيدات عمر المختار، لكن الثورة الشعبية الليبية منتصرة، فالثوار -حتى في غربي ليبيا- بدؤوا يحرزون تقدما غير مسبوق، وأما العقيد فبات يترجى عدم ملاحقته أو ملاحقة عائلته إذا ما ولى هاربا!! عجبا، وهل يختلف لون دماء الملوك عن لون دماء الشعوب!! أم هي حقيقة أن للملوك دما أزرقا؟!!
والثورة الشعبية السورية أيضا ماضية، حيث الأزمة السورية باتت متفاقمة لدرجة اللاعودة، لكن ما تأسف وتحزن له الشعوب الحرة الثائرة هو أن ترى جيوشها تطحن بدباباتها -التي اشترتها من دماء الشعوب- تطحن أبناء شعوبها نفسها، لا بل وتقطع عنهم المياه الكهرباء، وتبعثر أشياء منازلهم وتكسر زجاج نوافذهم وتعتقل أبناءهم وتذبحهم وتذبح أبنائهم على مرأى من كل العالم المتحضر وغير المتحضر!!
فما يرويه شهود العيان في الفضائيات وفي الشبكات الاجتماعية وغيرها، شيئ خطير مريب معيب لما يجري في سوريا، وشيئ تشيب له الولدان، والشعب السوري أيضا قالها صراحة وجهارا نهارا إنه لن ينحني أو يركع لغير الله.
ويروي الشهود عن درعا الجريحة المحاصرة وعن غير درعا، وعن حمص وبانياس وإدلب وغيرها من مدن وبلدات وريف بلاد الشام!!! آه على الحال التي أوصلكِ إليها الليث ابن الأسد يا سوريا، يا حبيبة الشعوب، ويا حبيبتي!!! ثم يا ترى من يحكم في سوريا؟! فهل هكذا يفعل أطباء العيون المثقفون أو المفترض أنهم مثقفون بالشعوب الحرة؟!! أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟!! فحتى الأسود لا تقتل سكان الغاب إلا إذا كانت جائعة!! أفلا يكفيك أيها الأسد الصغير ثمانمائة جثمان شهيد سوري طاهر حتى اللحظة؟!! ترى أَكُلِّ هذا الإجرام ولم تشبع؟! أَوَ كل هذه الدماء الزكية ولم ترتوي؟! أَوَ بَعد كل هذا الدم والدمع والحزن والدمار، أفلا ترعوي؟!
وترى كيف تراك تسمع نغمة دعاء أمهات وبنات وزوجات الشهداء السوريين، وهن يتضرعن في كل لحظة بأن ينتقم المولى من قاتليهم، وممن كان وراء قاتليهم، وكم من خطايا ستلاقى بها وجه ربك أيها الليث ابن الأسد؟!!!
أما أنت يا شعوبنا الكريمة الأبية في شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي التي ترى ما يحدث لبني جلدتها وأمتها في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين وغيرها من البلدان، فحري بك أيتها الشعوب الكريمة التظاهر والانتفاض والاحتجاج، من أجل شد أزر الثائرين من أجل الحرية والديمقراطية الحقيقية، ذلك "أننا شعوب أقسمت ألا تنحني إلا لله".
فهل نرى مظاهرات مليونية وأكثر من مليونية في مصر العروبة وفي السودان الشقيق وفي الأردن وفلسطين والعراق وفي تركيا وإيران وماليزيا وإندونيسا وفي كل بلدان العروبة والإسلام، لا بل وفي كل بلدان الدنيا، تضامنا مع الشعوب العربية الثائرة من أجل الحرية والديمقراطية الحقيقية؟!
تظاهروا يا أبناء وبنات العالم تضامنا مع دمائنا، تظاهروا حتى توقفوا شلالات الدماء الزكية، تظاهروا حتى يتوقف النزيف وتتضمد الجراح، تظاهروا ومدوا أيدي العون للشعوب النازفة والتي أقسمت أن لا تنحني أو تركع لغير الله!
* إعلامي، أردني مقيم في دولة قطر.
رئيس وزراء حكومة الظل الأردنية.