الإستراتيجية السورية في إدارة الأزمة
يتفق الجميع على أن النظام السوري يشكل حالة خاصة بامتياز، فخصوصيته تكمن في موقعه الاستراتيجي والحماية المشتركة للحدود الفلسطينية المحتلة مع الحدود السورية (مقاومة المقاومة) وتركيبة الحكم وارتباطه العضوي بالمعسكر الإيراني واستخدامه للفصائل والتنظيمات الناشزة عن الحالة الأم كواجهة إعلامية ديكورية له والحالة الشعبية الناتجة عن ممارسات النظام الأمنية المتواصلة على مدى أربعة عقود.
هذه الخصوصية أعطت النظام انطباعا خادعا عن طبيعة المنتوج الشعبي السوري المعاصر له حين قال (أن سوريا ليست تونس أو مصر) في إجابة على سؤال لأحد الصحفيين الغربيين حول إمكانية انتقال الثورة إلى سوريا قبل أكثر من شهرين.. حيث اعتقد حينها أن العقلية السورية أصبحت ذا طبيعة خاصة لا تملك أساسيات الثورة ومحفزاتها حيث عمل النظام على محاولات لمسح صفات فطرية من الشخصية الشعبية السورية وبفعل مراكمة الخوف وعمليات غسل الدماغ المستمرة والتي تجري حكما لضمان تنفيذ أي عملية حياتيه أو معيشية للفرد السوري العادي،
وبالمقابل كان الحكم محاطا بدائرة حديدية ليس لها أي ارتباط بالشعب أي (بالعقلية المشبوهة حسب مرئيات النظام السوري) بالتالي لا يخاف منها أوعليها (الدائرة الأمنية)، وهي محسوبة عضويا على (العائلة) وتعرف بأن استمرار حياتها مربوط بالمحافظة على شخصية الشعب (تابعة ومكملة) لشكل الدولة فقط كما كانوا يعتقدون أو يشتهون، والتالي تعيش هذه الدائرة الحديدية على إفرازات مهمتها الوحيدة والتي تضمن الإبقاء على وتيرة خوف متناسبة مع ظروف المرحلة للحفاظ على هذه الشخصية للشعب، وتتصف هذه الدائرة الأمنية بسطوتها على الرئيس نفسه مشكلة الوصي الشرعي عليه، وعملها ينفصل تلقائيا عن مراكز القوة الخاصة بالرئيس عند الأزمات الخاصة بالحكم ويقودها أقاربه من الدرجة الأولى ( شقيق الرئيس وشقيقته وأخواله ) يعملون لهدف واحد هو الإبقاء على (سوريا العائلة) كلمة واحدة لا تتجزأ فلا سوريا بدون (العائلة) ولا وجود (للعائلة) بدون حكم سوريا بالنسبة لهذه المنظومة.
شكلت الانتفاضة الشعبية السورية صدمة غير متوقعة للنظام في الأيام الأولى وما تلاها والتي اتسمت بابتعادها عن مراكز الثقل السكاني في العاصمة وحلب في البداية.. ذلك كشف التركيبة الخاصة (للعائلة) ما بين الوصي والحاكم القابع تحت الوصاية الخفية مما دفع النظام السوري للعمل على عدة اتجاهات منفصلة وبدون تنسيق كامل، حيث أن قرار الفعل السوري أو ممارسته السياسية تمت على اعتبار كما تنبغي أن تكون بالنسبة للنظام وليس كما هو فعلا على ارض الواقع الذي فرضه الشعب الثائر.
فالممارسة السياسية القائمة حاليا والتي تشمل حزمة من إعلانات لمشاريع إصلاح ومن خطابات وتسويق إعلامي تتم من قبل المعسكر السياسي المنفصل تماما عن (الوصي) الأمني باستثناء (رأس النظام) الذي يشكل حلقة الوصل بين المعسكرين، حيث أن اتساع الدائرة السياسية السورية والإعلامية الحتمية (لإعطاء شكل الحكومة للنظام) أدت لمنع الثقة بالشكل المطلق عن كامل هذه الدائرة مما يساعد في جعله مدافعا عن المنهاج الغامض لمنظومة الحكم دون ادارك لتفاصيل العمليات الأمنية التي يسيرها الوصي الأمني للحكم ليشكلان متلازمة معقدة من منظومة الحكم.
وهنا تجد الحكومة السورية الرسمية (كوزراء ونواب وإعلاميين) نفسها مضطرة للأخذ بالروايات والمبررات الطارئة والغير منطقية في الغالب وتسويقها والدفاع عنها أحيانا وهي التي يصيغها (العضو الأمني المنتدب) والموكل بتبرير العمليات الأمنية في الشوارع واقتحامات درعا بالدبابات مثلا ضمن معتقد (فن السياسة الممكن).
لم يدرك النظام السوري أن (فن الممكن) في السياسة له حدوده وأصوله حيث يعتمد هذا الفن كوسيلة إدارة صراع أو أزمة ليشكل معالجة تخديرية ربما لمرحلة ما، وأرقى الحلول في (فن الممكن) هو انتهاء الحاجة له أو الرجوع إلى ما وراء الكواليس أو ما وراء الشمس عند أول فشل ، حيث لم يعرف بالتاريخ استمرار الظاهرة السياسية الدخيلة على أي أرضية زمنيا لأكثر من عمر الطاغية الذي شكل هذه الظاهرة السياسية، وكان أولى للرئيس أن يدرك أن الفاعل السياسي للظاهرة الدخيلة أو الطارئة هو دخيل وطارئ أيضا، ولا يمكن أن يمارس التدافع التنافسي على السلطة في النظام الجمهوري العائلة بكاملها مثلا..
كان على النظام السوري أن يدرك أن جوهر السلطة هي توزيع القوة بين الأطراف وان أهم هذه الأطراف هي الشعب، حتى يتسنى له تبادل وتناغم القوى مع نخب الجمهور، ولكن النظام بتركيبته المعقدة والضيقة جدا اسقط من حساباته قوى الشعب الكامنة والتي لا يمكن أن تنتزع، حيث اعتقد خطأ أن الشعب لا يملكها.. فبدأ بإدخال الدبابات على شوارعها تحت بند تخليص الشعب من أشباح لا وجود لهم إلا في مخيلته.
سوريا.. لك الله
جرير خلف