بعد "الربيع العربي"، لم تعد المنطقة خريطة نمطية جامدة كما عهدناها في الماضي. تفككت معظم أوصالها، وزالت الكيانيّة عن دولها التقليدية بفعل الهامش الواسع من الصراعات والاضطرابات التي مرّت بمراحل مختلفة وأدوار متعددة فاقمت من حالة الشعوب سوءًا على سوء وكأنّها توردهم موارد الهلاك والفناء. ومع هذا الهامش المفتوح باتت الحدود مستباحة، سيّالة، مؤهلة للتمدد أو التقلّص بحسب حرارة الأحداث التي بدأت منطقية في تونس وأصبحت طائشة ومتهورة في اليمن على خلفية أساسية هي قرب التوصّل إلى اتفاق بين إيران والدول الكبرى.
هذا الاتفاق حول برنامج إيران النووي زاد من المخاطر الأمنية على حلفاء واشنطن في المنطقة ودفع بالسعودية إلى شن حرب على اليمن تبدو ظاهرياً كإجراء لا بدّ منه لقطع الطريق أمام تمدد الحوثيين واستعادة "الشرعية"، لكنّها في العمق هي اعتراض حازم على علاقات التفاعل بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. فعلى مدى السنتين الماضيتين تراكمت بين الدولتين قواعد وقوانين ومصالح مشتركة أدّت إلى تقارب محدود في بعض الملفات، فاعتبرت السعودية ذلك تغييراً خطيراً يمسّ جوهر العلاقات التاريخية والاستراتيجية بينها وبين الولايات المتحدة، وأنّ أمريكا تكرّس ميزان قوى جديداً لمصلحة إيران في إطار سياستها القائمة على تنزيل حلفاء سابقين وتحميل لاعبين جدد، ما يعني أنّ السعودية وبعض دول مجلس التعاون الخليجي أمام منعطف وجودي خصوصاً مع توجهات أوباما تقليل حجم الارتباطات العسكرية الخارجية، أي إدارة الظهر لأي طلبات بالتدخل العسكري المباشر. ففي مقابلة مع توماس فريدمان الكاتب في صحيفة "نيويورك تايمز" نشرت يوم الأحد 5 أبريل/نيسان، قال أوباما: "إنه سيبلغ دول الخليج أنّ عليها أن تكون أكثر فعالية في معالجة الأزمات الإقليمية." وأضاف: "أعتقد أنّه عند التفكير بما يحدث في سوريا على سبيل المثال، فهناك رغبة كبيرة لدخول الولايات المتحدة هناك والقيام بشيء. لكن السؤال هو: لماذا لا نرى عرباً يقاتلون ضد ما يفعله (الرئيس السوري بشار) الأسد؟".
بدأ خطأ السعودية عندما لم تنشد توافقات حول الأزمة السورية ولم ترغب بحلول سياسية واقعية في اليمن والعراق والبحرين، ولا تصرّفت في إطار فهم لحدودها، أي باتخاذ الإجراءات الكفيلة لضمان الاستقرار وإعادة الاتصال بينها وبين السياق التاريخي الناشئ بعد "الربيع العربي" بطريقة صحيحة ومنطقية للخروج من الأزمات وليس تحويلها إلى صراعات نشطة. وعليه، فإننا أمام مسار تحوّلي في الجزيرة العربية وبيئة ضاغطة واستراتيجيات متحركة وسياسات لا تتضح قواعدها وتناقضات تسد الأفق أمام حلول مرتقبة. ويكفينا قول المفكر المصري الشهير محمد حسنين هيكل بأنّ "اليمن بركان نائم جنوب شبه الجزيرة العربية، اذا انفجر.. فإنه سيجرف كل المنطقة".