رغم ان الفوارق بين الحضارات لا تقبل الاختزال الى فارق واحد، بسبب تباين الفلسفات والعقائد والبيئات الا ان ما يعنينا في هذا السياق هو ذلك الفارق الجوهري، وقد لا يزيد عن حرف واحد، فثمة حضارة تتيح للبشر أن يتكاملوا ويكونوا معا وشعارها أنا وأنت، مقابل حضارة يكون فيها التآكل بديلا للتكامل والطرح بديلا للجمع، وشعارها انا أو انت، وهنا أتذكر شاعرا فرنسيا هو جيرالدي كتب ديوانا اهداه لحبيبته، وقال لها، ان كل ما يريد قوله هو حذف حرف الواو بينه وبينها، وهذا ليس حلا صوفيا بقدر ما هو محو المسافة بين انسان وآخر؛ لأن قدرهما أن يكدحا على سطح هذه الارض وأن يُدفنا في باطنها .
حضارة التكامل والجمع بين الأنا والآخر هي زراعية بامتياز، ويعرف ذلك من وُلد في قرية عربية ورأى كيف يزرع الناس وكيف يعزقون الأرض وكيف يحصدون، بل كيف يصبون سقوف بيوتهم كما لو انهم اوركسترا . إن حضارة أنا أو انت رهانها هو القوة، ونمط انتاجها هو الغزو، أمّا ادبياتها وثقافتها فهي الهجاء والإقصاء، والتنابذ بدلا من التّنافُذ.
وما يجري الان في العالم العربي الذي كان اسمه ذات يوم الوطن العربي يخضع جملة وتفصيلا لرهان أنا أو أنت، وحين يحسم الأمر للأنا يقول الفائز بكل فجاجة وحماقة: ليأت من بعدي الطوفان، متجاهلا أنّ الطوفان يأتي على كل ما تخيل أنه أنجزه وسيبقى إلى الأبد ّ
فلأول مرة في التاريخ يقتل الموتى بضع مرات، وتدمّر الأطلال لتصبح أطلال الأطلال، وتسود ثقافة نكاية بالطهارة فيجري السطو على مؤسسات الدول وتدميرها رغم أنها شيدت بأموال الناس جميعا وبعرقهم وجهدهم وهي إرث لمن يأتون من بعدهم !
لقد تسللت إلينا نظرية أنا أو أنت كالأفعى، وباضت في الكتب والقواميس وحتى تحت اباطنا ! لهذا فالهزيمة موزعة بالتساوي على الاخوة الاعداء، ومن يتوهم الانتصار لا يدرك بأنه انتحر وهو آخر من يعلم، لأن الدم الذي استمرأ مذاقه كما حدث للقط الذي لحس المبرد هو دمه وليس دم اي كائن آخر .
اننا نشتبك الآن بالكلمات واللكمات والرصاص والسكاكين والهاون كما لو أننا نقتتل على امرأة واحدة وعلى رغيف واحد وعلى وظيفة واحدة فكيف تحوّل عمى البصيرة الى وباء ؟