أوشكت ممارسات رئاسات "الدولة العميقة" ان تحولنا الى "دولة غريقة" واخذنا نضرع الى الله ان تسترد الدولة العميقة عمقها بعد ان تولّاها عدد من الضحلين.
اخطر ما يزعزع الدول هو ان تتلاطم – كما حصل في بلدنا- رؤوس قياداته وتتصارع وتتناحر وتتذابح وتعمل ضد بعضها بعضا وتتقاتل بالسلاح الأبيض وبالضرب تحت الحزام، من دون أي اعتبار لأي خطر يصيب الدولة ويلحق الضرر بمؤسساتها.
باشرت العمل وزيرا للتنمية السياسية والشؤون البرلمانية بكل اخلاص واندفاع وعزم فكتاب التكليف يصف الحكومة بانها حكومة التنمية السياسية ! وخفف ضغط العمل الى حد كبير المساندة الكبيرة التي وجدتها عند الرئيس النبيل فيصل الفايز ومروان المعشر ورياض أبو كركي وباسم عوض الله وحازم الناصر ومازن الساكت وعبلة أبو علبة وخلدون الناصر وناهض حتر وموسى المعايطة ود. منير حمارنة واكرم الحمصي وفؤاد دبور وحازم قشوع وفيصل الشبول وايمن الصفدي وطاهر العدوان وجميل النمري وفهد الخيطان وعدد كبير من الشخصيات السياسية والحزبية والإعلامية، لكنني ذهلت من حجم "التخريب" الرسمي ومن كثرة وقبح ونذالة صغار الكتبة المخبرين الذين كانت تفوح منهم نتانة القبض وتوجيهات الألو.
توجهت بصحبة الخلّاق امين عام الوزارة بشير الرواشدة لمقابلة شخصية مدنية مهمة ونحن نحمل ورقا واقلاما لنسجل ملحوظات تعيننا في عملنا، فاذا بالرجل غير موافق ورافضا لمشروع "التنمية السياسية" بدعوى ان نفاذ هذا المشروع "سيسلم البلد للفلسطينيين وللاخوان المسلمين"، غادرناه وانا أقول لأخي بشير بالحرف: "اطلق الرجل النار على التنمية السياسية" كيف يجوز ان "النظام" يعمل ضد نفسه؟ حركة النظام تشبه حركة رجلين يجدفان في مركب، يفترض ان يجدّفا في اتجاه واحد، لا في اتجاهين متعاكسين !!
كنت عائدا من المغرب، التي لم يخلق الله اجمل منها، ولا أكرم من شعبها، كانت علاقاتي مع المسؤولين المغاربة في تمام النجاح والمعافاة، فالملك الحسن الثاني أعظم ملوك العلويين، يرحمه الله ويحسن اليه، يعرفني، ويعرفني أيضا الملك صاحب القلب الفيّاض بالرحمة والحكمة، محمد السادس ابن عم ملكنا وصديقه الحميم، اما الوزير الأول، سي عبد الرحمن اليوسفي، المناضل المحكوم سابقا بالاعدام، فكان يسميني "صديقي السفير الأردني" وتربطني علاقات طيبة جدا وصداقة بكبار رجالات الدولة والمثقفين والصحافيين المغاربة مثل رئيس مجلس النواب سي عبد الواحد الراضي ورئيس الديوان الملكي المؤرخ والاديب عبد الحق المريني ورئيس الوزراء الأسبق احمد عصمان ورئيس اللجنة الأولمبية المغربية بطل فرنسا في العاب القوى وحارس المرمى الشهير قائد الدرك الملكي الجنرال حسني بن سليمان، والجنرال عبد الحق القادري المفتش العام للقوات المسلحة ومدير المخابرات، ورئيس المجلس القضائي الأعلى ادريس الضحاك، والمناضل التقدمي البارز أيام الجمر والرصاص محمد اليازغي، وراعي المهرجان الثقافي الفكري مهرجان اصيلة الشهير وزير الخارجية البارز محمد بن عيسى، ووزير الاتصال والاعلام الأسبق الاديب والسياسي البارز محمد المساري العربي رائد الحوار العربي الاسباني، ومستشار الملك الحسن أستاذ السوربون البروفيسور اندريه ازولاي، ووزير حقوق الانسان محمد اوجار، والمؤرخ الصديق الأشد طرافة د.عبد الهادي التازي، وأعضاء الفرقة المغربية الشهيرة ناس الغيوان.
وجمعتني في المغرب أيضا صداقة حميمة امتدت نحو خمس سنوات مع السفير الشاعر الدكتور عبد العزيز خوجا وزير الاعلام والثقافة السعودي الحالي وأيضا مع السفير الجزائري الوزير والمؤرخ ورئيس المجلس الدستوري بوعلام بسايح والسفير التونسي المرجع الثقافي الدكتور صالح البكاري وزير الثقافة الأسبق، ومع المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة –الايسيسكو الصديق الحميم د.عبد العزيز التويجري.
كنت في نعيم، في مملكة العلويين الراسخة، وكنت في أوساط شعب اجزم انهم أكرم من خلق الله، كنت اتجول سائقا بسيارتي – في غير المناسبات الرسمية – في كل ارجاء المغرب الشاسع الذي تحفه شواطئ طولها 3500 كيلومتر على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي وعندما التقيت الصديق النائب الشيخ برجس الحديد في مجلس النواب قال لي: ويش جابك يا زين؟ والله لو خيروني بين منصب فيصل الفايز وسفير في المغرب لما اخترت الا المغرب، كان أبو نضال اكثر حكمة مني فقد كشفت لي الاحداث اللاحقة عن ان "السيستم مخردق" وان النظام أصابه الهريان، وان لا محرمات في صراع الضواري الناشب بين "الكبار" المتكالبين على الكراسي.
بعد أسبوعين من حلف اليمين (2003.10.24) امام جلالة الملك عبد الله ابن الحسين، الغالي ابن الغالي، تلقيت الصدمة الثانية، بعد صدمة "اطلاق النار على التنمية السياسية" فقد تيقنت ان مدير المخابرات "يشتغل" ضد الحكومة وعلى المكشوف، تجمَّعت لدي حقائق وليس اشاعات، حملتها الى الرجل الشهم فيصل الفايز، طاهر القلب والضمير، اطلعته على "شغل المدير" ضدنا فلم يصدق، لا بل قال لي انها محاولات من بعضهم للايقاع بيني وبين مدير المخابرات، دهشت وقلت آمل ان تكون متيقنا مما تقول لي.
تراكمت المعلومات لدي على "شغل المدير" ضد الحكومة ولم اطق صبرا، فجررت نفسي على مضض، واطلعت الرئيس على ما تحصّل لدي، فلقيت منه إعراضا عن التصديق، أخف من المرة الأولى وبعد أسبوع طلبني وأسرّ لي قائلا: لقد التقيت مع المدير وتعاهدنا على ان لا يعمل احدنا ضد الاخر!! قلت له: اذن انت كنت تصدق ما كنت اطلعك عليه، قال : نعم كله ومن اول مرة وأضاف: انا بعرف بالزلم.
ما كان يفجعني هو ان حجم التآمر على الحكومة كان مكشوفا جدا وخاصة للوزراء ولا احد يتكلم لا احد. واثناء الجلسة الرسمية لمجلس الوزراء قال لي دولة الرئيس بحضور جميع الوزراء: ما بدك توقف طخ على فلان في ندواتك ولقاءاتك وجلساتك، وكان يقصد شخصا غير المدير، فقلت: عندما يتوقف عن الطخ على الحكومة اتوقف عن التعرض له توقفا كليا، فليس بيني وبين فلان الذي تقصده عداوة شخصية، هو أيضا "يشتغل" ضد الحكومة التي انا فيها وارجو ان تطالبه بالتوقف عن هذا "الشغل".
وكان الذين يشتغلون ضد حكومة فيصل الفايز، كثر، من داخلها!!! ومن خارجها ومن دون أي مبرر وطني على الاطلاق. لقد عملت "الدولة العميقة" لسنوات عدة، بطريقة غرائز الصغار، حتى اوشكت ان تتحول الى "الدولة الغريقة"، وابهجنا انها استردت لياقتها وعادت تحافظ على عمقها وهيبتها ودورها الوطني المجيد.
لم يصمد "اتفاق الجنتلمان" اكثر من أسبوع ثم اخذ "الشغل" ضد الحكومة يعود الى سابق ضراوته وشدته، ذهبت الى مكتب الرئيس وقلت له: لقد عاد العمل ضد الحكومة اوسخ من السابق فماذا نحن فاعلون؟!
قال الرجل: خلي لي إياها، انت ما قصرت.