نهاية “الوطنية الفلسطينية”
- السبت-2015-01-10 | 01:26 pm
أخبار البلد -
تشهد هذه اللحظة المميزة في التاريخ الفلسطيني سقوط "الوطنية الفلسطينية” كنهج يعبر عن مصلحة طبقة محددة استفردت بالقرار الفلسطيني وغلفته تارة بعباءة علمانية, بعد إقصاء و/ أو رشوة اليسار الراديكالي, وتارة أخرى بعباءة دينية إقصائية بدأت برفض فكرة الوطنية, وانتهت بقبولها تحت مسميات "الاستقلال” و "الحكمالرباني!”
و نستطيع أن نجادل أن قطاع غزة, بالذات في الفترة الأخيرة, قد أصبح معملا للتجارب, إن جاز القول, تركزت فه "إبداعات” الوطنية الفلسطينية من خلال دمجها لمتناقضات غاية في الغرابة. فمن الوعود بتحويل القطاع الى "سنغافورة الشرق الأوسط” أو "دبي فلسطين” الى التخلي عنه بشكل كامل, بل التمني بأن ينسلخ عن الوطن الأم, و المساهمة في ترسيخ عقاب جماعي لسكانه من خلال مناكفات حزبية ضيقة تخطت العشائرية المقيتة التي هي بالضرورة نفيض الوطنية بمعناها التاريخي العام. و من الناحية الأخرى الإيمان المطلق أن انتخابات مجلس تشريعي يمثل ثلث الشعب الفلسطيني فقط, بما فيهم سكان القطاع غير المرغوب فه, و القناعة التامة أن هذا المجلس الشبيه ببرلمانات الترايكاميرال في جنوب أفريقيا, التي منحها نظام التفرقة العنصرية بوصفها رشوة لبعض الأقليات العرقيةرمزا من رموز "الاستقلال,” هو الهدف الأسمى للعمل السياسي الفلسطيني و أن الفوز بانتخاباته هي تجسيد إما لشعبية الفصيل الوطني الفائز و قائده ,كما حصل عام 1996, أو تجسيد لإرادة غيبية أدت الى فوز فصيل ديني قام بتشكيل حكومة ربانية احتكرت , كسابقتها, الحكم و تعريف "الوطنية”, و احتكار أشكال المقاومة بعد إقصاء الغالبية الساحقة من الشعب من المشاركة حيث ان الشكل الوحيد للمقاومة الذي اعتمدته بطبيعته نخبوي و يقتصر في أحسن حالاته على ما لا يتخطى 12-15% من قوى الشعب متعددة القدرات.
و مع الإيمان الكامل من كلا الطرفين الحاكمين بأن الوطنية الفلسطينية تتجسد بما اصطلح على تسميته "بالمشروع الوطني الفلسطيني,” الذي تحول الى مشروع مناهض للاحتلال الاسرائيلي للضفة و القطاع فقط, من مشروع مقاوم لاستعمار استيطاني, الى حركة تحرر ضد دولة استعمارية تقليدية, مشروع تجسد في شعار دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67, تعيش جنبا الى جنب بسلام مع دولة اسرائيل, أو مع هدنة طويلة الأمد قد تمتد الى 10-20 سنة قابلة للزيادة حسب التطور (أو الانحدار) الفكري للفصيل.
و هكذا أصبحت الوطنية الفلسطينية برموزها المتمثلة بعلم, نشيد و طني, جهاز أمني, ألقاب "سيادية” خالية من المضمون, تتجسد في النضال حتى الموت في سبيل دو(ي)لةمنزوعة السلاح لا سيطرة لها على حدودها البرية و البحرية و الجوية, تحكمها حكومة نموذجيها العلماني اليميني و/أو الديني أثبتا فشلهما الذريع في الحكم على الصعيد السياسي و المهني من خلال تحويلهما القطعتين الجغرافيتين اللتين يتحكما بهما الى إقطاعيتين فصائليتين بعيدتين عن مفهوم الوطنية الشاملة التي تمثل الشعب بمكوناته و طبقاته المتعددة, و ليس فقط أعضاء الفصيل أو المقربين منه. إن الفشل الذريع في نموذجي الحكم في كل من الضفة و غزة و تحويلهما الى سجنين كبيرين, احدهما مقطع بأكثر من 600 حاجز عسكري اسرائيلي, و لا يستطيع أي "وزير” التحرك بدون إذنٍ من جنود الاحتلال, و الآخر تحول الى ما أسمته منظمات حقوق الانسان "أكبر سجن مفتوح على سطح الكرة الأرضية” و تحول سكانه الى مساجين يقودهم فصيل لا يرى الأسلاك الشائكة المحيطة به.
منظومتا الحكم في كلتا الحالتين تجمعان على حل عنصري كان قد طُرح في الأساس من قبل |”اليسار” الصهيوني الذي يرى أن حل "الصراع″ يكمن في انسحاب قوات الاحتلال من الضفة الغربية و قطاع غزة, مع إمكانية تبادل أراض للحفاظ على بعض المستوطنات غير الشرعية! في الحالة الأولى نعترف بإسرائيل, و في الثانية لا نعترف بها! و في الحالتين تصبح الوطنيةالفلسطينية تتجسد في دويلة مقامة على جزء صغير من أرض فلسطين التاريخية, و هو حل لا يأخذ حتى قرار التقسيم الدولي 181 في الحسبان. هو حل عنصري يقوم على أساس فصل إثني ديني بين مجموعة سكان الأرض الأصليين متعددي الثقافات و الهويات الدينية (ومنها اليهودية), و مجتمع الاستعمار الاستيطاني الإقصائيذو الهوية الاثنية الدينية الواحدة, مع السيطرة الكاملة للأخير على الأول عسكريا و سياسيا و اقتصاديا. هذا بالضبط ما تفتقت عنه عقلية مهندسينظام الفصل العنصري (الأبارتهيد) في جنوب أفريقيا في منتصف القرن المنصرم حيث قامت بمنح بعض السكان الأصليين "أوطان مستقلة” برموز سيادية شكلية بعد فصلهم عن مجتمع الاستعمار الاستيطاني الأبيض الذي ظل مسيطرا على 88% من أرض جنوب أفريقيا و تحكمه بكل ما يدخل و يخرج من تلك الدول الأفريقية "المستقلة” التي كان قادتها يعدونها تجسيداً”للوطنية الأفريقية!
و هكذا تدهورت "الوطنية الفلسطينية” بتطلعاتها ليصبح الواقع الموضوعي الذي تعيشه و تتعايش معه يتمحور حولدولتين لشعب واحد, مع سجنين كبيرين للشعب الآخر يمكن أن نطلق عليهما لقب الدولة الفلسطينية المستقلة التي سيعترف بها المجتمع الدولي بعد "الانتصار التاريخي” على بعض الاعتراضات الاسرائيلية و الأمريكية!