تحولت الأشياء من حولنا، وعلى رأسها الحالة الاقتصادية، إلى مجرد وجهة نظر. فتصادمت الأفكار والمواقف، وقبلها منهجية التحليل والتشخيص، وصولا إلى حالة من عدم اليقين بشأن الوضع الاقتصادي، كانت تصيب في السابق الشارع والرأي العام، لكنها تسللت اليوم إلى النخب؛ فكل يرى بمنظور خاص.
في أول أيام العمل في العام الجديد، أعاد رئيس الوزراء
د. عبدالله النسور التذكير بأن المؤشرات الاقتصادية جيدة، إذ تجاوز النمو نسبة 3 %، كما لم تضف الحكومة الحالية فلسا واحدا على المديونية، و"لا فساد جديدا". لكن الحكومة التي تغرق في الحديث عن الصادرات والمستوردات والاحتياطات النقدية وقوة الدينار، لم تسأل -ولا تريد أن تسأل على ما يبدو- عن انعكاس عام من الغلاء والفقر والعلاقة مع صندوق النقد الدولي على أحوال المواطنين، ومدى تغير هذه الأحوال إيجابا أو سلبا. وهذا هو المهم في تقديري، لا الانخراط في جدلية التفاؤل والتشاؤم التي يسهب المسؤولون في الحديث عنها، ويلقون الاتهامات ذات اليمين وذات الشمال.
في مقابل هذا كله، وعقب حديث الحكومة عن علاقة شبه مثالية مع مجلس النواب، تظهر مذكرة يوقعها عشرات النواب بقصد طرح الثقة في الحكومة، بسبب إدارتها الظهر لسلطة التشريع والرقابة في ملف حيوي هو رفع أسعار الكهرباء اعتبارا من مطلع العام الحالي.
في الأثناء، جاءت تصريحات الرئيس السابق للديوان الملكي عدنان أبو عودة، حادة في سياق فهم السياسة الداخلية من منظور اقتصادي وسياسي، مشيرة إلى خطأ هذه السياسة المتراكم. وفي مسار معاكس، أبدى رئيس مجلس الأعيان د. عبدالرؤوف الروابدة، أمس، وفي اتصال مع إحدى الإذاعات المحلية، غضبا بسبب ما تذهب إليه وسائل إعلام في علاقتها مع المسؤول، وطبيعة العلاقة الهجومية التي تنشأ. وانتهى إلى أن "الأردن في وضع جيد"، لكنه يبدو في الإعلام "أقرب إلى الصومال". وهكذا، تبدو الملامح أقرب إلى عدم اليقين في أوساط النخب، بعد أن تفاقمت هذه الحالة في أوساط العامة. وثمة نقابيون ومعارضون يؤكدون أن البلاد تسير في نفق مظلم، فيما تتبدى في موازاتهم وجهات نظر أخرى تقول إن الدولة حققت إنجازا في ظل محيط ملتهب، يشهد تقسيما وخرابا يودي بلقمة الخبز والحرية في آن معا.
الخلاصة هنا هي أننا غرقنا في التشخيص، وتسرب عدم اليقين إلى تفاصيل الاقتصاد. علما أن مخططي الاقتصاد لا يخشون شيئا أكثر من عدم اليقين، وتسلله إلى دهاليز السياسات الداخلية؛ إذ هو يؤثر سلباً في أعتى الأنظمة الاقتصادية، فما بالك باقتصاد صغير يحاول أن يتلمس خطاه في دروب المنطقة الشائكة! والمقلق أن هذه الأجواء تسود في مطلع العام الذي يُتوقع أن يكون حاسما بالنسبة للاقتصاد الأردني، لناحية علاقة الأردن مع مؤسسات التمويل الدولية، علاوة على نوايا الحسم باتجاه بدائل الطاقة وخياراتها.
بعيدا عن شكل الحروف ومخارجها، وتنميق العبارات أو جعلها قاسية الصور، فإن ثمة حقيقة علمية تفيد بأن هدف التنمية يتحقق عندما يسهم الاقتصاد، على نحو واضح، في تحسين شروط حياة الإنسان. أما عندما يغيب هذا الهدف، فإن كل التصريحات والكلمات تصبح مجرد كلام لا جدوى منه. والمؤسف أكثر أن يتحول الاقتصاد، ومثله حياة الناس وأنينهم، إلى مجرد "وجهة نظر".