أصبحنا وأصبح الملك لله
في كل صباح ومع كل إشراقه شمسٍ ومع فتحة الباب الخشبي المغلف بالصفيح وبزرفيل من الجيل الثاني مفتاحه مفقود منذ عقود، فالحاجة للمفتاح تكاد تكون معدومة، فالباب لم يُصنع لصد الحرامية وإنما (للسترة) وصد الهواء والبرد فلم يكن في تلك الأيام كما هو الآن لصوص... كانت تقوم المرحومة جدتي كل يوم قبل الفجر ولكنها تفتح الباب مُباشرة مع طلوع الشمس فالهدف تشميس الدار وإثارة الحركة والنشاط والطلب من الرب الخير والبركة وحفظ الدار وأهل الدار وخاصةً الغيّاب منهم وترجو لهم السلامة والإياب، ومباشرةً بعد فتحها للباب واندلاق النور وأشعة الشمس الرقراقة للداخل تصدح بأصبحنا وأصبح الملك لله... ولا تكمل لا شريك له... له الملك وهو على كل شيءٍ قدير، فتالي الجملة يبقى في صدر جدتي ظناً منها ويقيناً أن الله يسمع حتى دبيب النمل فلا داعي للتلفظ بصوتٍ عالٍ ومطلع افتتاحية الصباح بصوت مسموع تكفي ليسمع الرحمن والملائكة ومن ثم الكُسالى الذين ترجو نشاطهم وصحوتهم من نومهم، ومن المتناقضات أنها حينما تفتح باب الدار وتصبح مع الشمس وجها لوجه تبدأ بهذه المناجاة فأبدأ في التفكير وبشقاء الصغير لماذا الآن فقط! تبدأ بالتسبيح؟ أليس الله يسمع حتى من خلف الأبواب المُغلقة؟ أليس الله يرى ويسمع حتى قبل أن تسطع الشمس وفي النور وفي الظلام وفي داخل الدار وفي الخارج وفي كل مكان؟ أليس في سلوكها هذا وثنية؟ فما هي علاقة جدتي والناس في بلدي بالشمس؟!.
كنت انظر طويلاً إلى المثلث المُضيء، أحد أضلاعه فتحة الباب إرتفاعاً وقاعدته الأرض المختلطة بالشمس من دواسة الباب وحتى زاويته الحادة وضلعه الثالث أشعة الشمس، فأرى الغبار المتطاير بمساحة المثلث وأبدأ بسؤال حيرني كثيراً: من يُفصح عن من؟ النور عن الغبار أم الغبار هو الذي يكشف لنا الأشعة وبسببه نكتشف ضوء الشمس؟ (وفيما بعد حينما درست الكيمياء والفيزياء اكتشفت أن أنشتاين ورذرفورد هما شخصٌ واحد - طفل يتيم عربي أردني) فأصحو مع أول دقة مهوان من غفلتي واسترسالي في تساؤلاتي التي لا أصل إلى أجوبتها، فالمهوان (الهاون) هو أداة معدنية نُحاسية لطحن القهوة بالدق، والوريث الشرعي للمهباش، ولذلك حَوّرَ الناس الهاون إلى مِهوان لما للفظ من استعارة في المعنى واشتراك في الحرفين الأول والثاني كاسم أداة فأفيق من تأملاتي وأخرج من خلوتي مع نفسي مع إعلان أن القهوة وبلون بشرة العبيد تُسحق ولا تتوجع أو تصرخ وإنما الهاون هو الذي يملأ الدنيا والأفق ضجيجاً مُعلناً للجارات أن في هذا البيت قهوةً تُصنع، فلا تلفون ولا موبايل ولا حتى فيس بوك به الدعوة العامة تُعلن.
لقد قرأت فيما بعد في المدرسة أن الناس قديماً عبدوا الشمس وفي القرآن الكريم أن سيدنا إبراهيم في مرحلة الشك التي سبقت اليقين توجه للشمس ولكنه لم يُحب الآفلين! وفي الغربة الثانية كنت في الإتحاد السوفيتي طالباً في مدينة منسك عاصمة جمهورية بيلاروسيا حيث المدينة الوحيدة في العالم التي حافظت في ذلك الحين على وحدة الريف والمدينة فاستدعتني الجامعة كي أقوم بالترجمة لأحد الملحقين الثقافيين العرب فوجدته الأستاذ هاشم تلستان المُلحق في سفارتنا آنذاك في موسكو وكان الجو بارداً جداً وصقيع قارص وفي مثل تلك الأيام الباردة تختفي عندهم الغيوم وتسطع الشمس بدون جدوى في سماءٍ صافية، فرفع نظره مُحدقاً إلى السماء باتجاه الشمس وسأل هل شمسهم كشمسنا أم هل أنها فقط مرسومة في لوحة في السماء لا تأثير لها؟ فأجبته أن الشمس واحدة ولكن اختلفت علينا الأوطان!.
وفي غربتي الثالثة وفي نفس المكان في بيلاروسيا ولكن الغير سوفيتية حيث أن اشتراكية الدولة ومجموع المبادئ السائدة في الغربة السابقةِ كانت العامل المُخفف في غربتي وشوقي للأهل والوطن ورغبتي في شمسنا وليس كما صارت إليه الأمور حيث الغربة الثالثة تكوي القلب كما الصقيع وكما العلاقات الإنسانية على أساس برقماتي مصلحي مادي تذبح النفس وتسلخ الجلد وتنزع الروح عن الجسد فازداد الشوق إلى الشمس - شمس الوطن وليس أي شمس، فهاجني الشوق في كثيرٍ من الأحايين ونظمت الكثير من أبيات الشعر الفاشلة في عنوان الشمس وقلت فيها أنني لو لم أدرك الإسلام لعبدت الشمس، وبعكس جدنا إبراهيم عليه السلام فتعلقي يزداد بالآفلين وأبقى مؤمناً بالله وأهوى الشمس وأزداد عشقاً لها حينما تغيب.
وفي الأوطان ...في أوطاننا تونس ومصر وبعد أن كان الحاكم لا شريك له إلا سحرة الأنظمة وهاماناتها يُعبدون من دون الله، تنفس الفجر وسطعت الشمس فمرت من فوق آسيا العربية فلم نستحقها بعد ولم نشهدها ولم تسطع، فتركتنا تتبع طريق أبي زيد وابن أخته يونس غرباً إلى تونس تبحث عن أحفاد بني هلال فلقد هُدم السد من جديد في مأرب وأنكر الأعرابي على اليمن التعيسة به حقها في أن تسعد، فالتعاسة فال شؤم الحاكم وفي كل وطنٍ من أوطاننا سلطان يود لو يُعمرُ ألف سنه وما هو بمزحزحه عن النار وفي كل وطنٍ مدعيةٌ عرش بلقيس ونحن له نصنع وأمام جبروتها نسجد لها ونركع، فلم تُشرق شمسنا بعد وحتى القمر غاب عنا ولم يعد يطلع.
متى ستشرق الشمس على كل الوطن وتصبح أوطاننا وطناً حراً تخفق به الأرياح ...وطنا تسطع فوقه الشمس وليس مكاناً تحت الشمس، ونصحوا ونقول معاً: أصبحنا وأصبح المُلك لله ...لا شريك له.
د. م حكمت القطاونه-الكرك–الأردن hekmatqat@yahoo.com tel:+962795482538