علي السنيد
رمضان ليس ورشة كبيرة لإعداد، واستهلاك مختلف أطباق الأغذية والحلويات، وان كان لا احد يستطيع ان يحرّم ما اخرج الله لعباده من الرزق، وإنما هو على الوجه المخصوص زمن مقدس يمر بقلوب المؤمنين، فتتضاعف أعمارهم ،وتصبح أعمالهم أكثر قيمة، وهو فرصة حقيقية لاستقبال ما تم استدباره من التمتع بفيوض الخالق سبحانه، والتحلل من قيود المادة، والفوضى في أعماق النفس البشرية وللتخلص من شوائب تلحق بها بسبب أرضيتها، وهو شهر للإطلالة على الداخل لعل الإنسان يلتقي مع حقيقته الكبرى ويدرك مرامي خلقه وسط متناقضات عديدة تدفعه بعيدا عن دوره، وقد تصفي به اقل من مرتبة الهوام وفي ذلك يقول تعالى "ان هم كالأنعام بل أضل سبيلا”.
فالإنسان يظل مدار صراع بين أرضيته وسماويته ما دامت الحياة تدب في أوصاله، وقد تنتصر سماويته في جولة، وتهزم في جولات أمام غلواء هويته الأرضية التي تميزها الشهوات، فلم تكن متطلباته الجسدية المنفلتة هي غايته على الأرض، وهو في امتحان متواصل كي تحظى السماوية بمكانتها الحقيقية في برنامجه القسري منذ ان تمت عملية نفيه، وليعطي الأداء الذي يؤهله لولوج المكان النوعي الذي ستتجمع فيه الأرواح المؤمنة بعد الموت والاحتفاء في ثنايا الغيب.
وقصته تظل محكومة بوعيه لإدراك ان هدف خلقه يتجاوز اعتباره كائنا مهملا على الأرض ينمو حتى يبلغ اجله ثم يرحل دون غاية تذكر والله سبحانه يقول "افحسبتم أنما خلقناكم عبثاً، وأنكم إلينا لا ترجعون”.
والانسان معني في المقام الأول بان ينسجم مع إرادة الخالق الذي كرمه بالإرادة كي يحقق الغاية من وراء خلقه، ووضعه على الأرض مكان التجربة، وان يفشل توقعات عدم قدرته على إعمار الأرض المذللة له بقيم الحق والخير، وهو تحد كبير سيحسم مصيره عندما تطوي الأيام قصته وترميه في احد القبور.
والإنسان موطن الخير والعمل الصالح، وهو حلقة من حلقات الشر والضلال، والخراب، والحروب كما يظهر عندما تسود نزعاته، وينفلت من عقاله، ويضع إمكاناته في الغايات المستحيلة، ويتسبب بخسارته، وبآلام غيره ويقلب الأرض إلى مكان للصراع والجور، والظلم والعدوان.
يأتي رمضان الضيف المتكرر كل عام على شكل فرصة كي يصحو ساكن الأرض قبل فوات الأوان، ويضع ضوابط على ماديته، ويقلل من رغباته الجسدية، ويتوسع في الأداء الروحي، فمتطلبات الجسد زائلة، ورغبة التملك القاتلة تبعده عن خيريته، وتخص أرضيته بالدرجة الأولى ولا تتعامل مع حالة الفناء التي يسير إليها كل حي بقدميه.
وفيه دعوة الى التوازن، وعدم الإغراق في الدنيوية التي سيخلفها وراءه يوما ما على الوجه المؤكد، وقد تزول كثير من الشرور لو وافق الإنسان الرغبة الربانية المتمثلة في امتلاك فقط ما يمكنه من اجتياز الامتحان الذي يؤهله لمرحلة ما بعد الموت، وهي التي فيها يكمن المستقبل، وكي ينزع إلى الأعمال الباقية له في حياته الأخرى إن كان حالفه الحظ، وأدرك سر وجوده المؤقت على الأرض.
وبذلك تنضبط فوضى هذه العلاقات الإنسانية التي تدور في خضم صراع طاحن لتملك الحصة الكبرى على ارض لن يستطيع احد أن يخطف قلبها.
وهذا الصراع المتفاقم والذي قد تسود فيه الوسائل غير النظيفة غالباً لا أهمية له فهو إلى زوال، وقانون الحياة المرئي يبطله يومياً ما دامت الجنازات لا تتوقف، والاهم من ذلك ان يجد الإنسان حقيقته، ويتماهى معها وان لا تخدعه الأيام ، فيحسن شروط وجوده على الأرض التي سينطلق منها إلى آخرته، وقد اكتسب من أيامه المؤقتة ما يبلغه لقاء ربه في الحياة الدائمة بعد الموت عندما يعود إليه عارياً لا يملك من مقتنيات الأرض شيئاً حتى الجسد الذي يبلى.