من اسوأ الظواهر في البلد، ظاهرة المسؤول اذ يصبح سابقا، فيفيض قلبه ولسانه بكل شيء بعد التقاعد، ولاتعرف لماذا قبِل ان يبقى مسؤولا طول سنين، مادامت الامور خربة.
من حق الانسان ان يبلور موقفه كيفما شاء، وربما يرد هؤلاء بالقول، ان الخروج من الوظيفة الرسمية يحرر المرء من اطواق كثيرة كانت تحيطه، فيأخذ راحته لاحقا بالتعبير عن مواقفه ازاء قضايا البلد، فيصير نقده بأثر رجعي، عدا النقد للمستجد من القضايا.
ربما كان التفسير مقنعا جزئيا؛ لكنه لايخفي في اغلب الحالات الدافع الشخصي، والتعبير عن الغضب الشخصي عبر النقد العام كسمة واضحة تماما، والذي يعرف اسرار عشرات الحالات يدرك ان قصة شخصية ما لعبت دورا في انفلات عقدة لسان المسؤول بعد خروجه من موقعه، مابين طموح لم يتحقق، او شعور بالظلم لسبب او آخر.
ثم انك تجالس عشرات المسؤولين من مستويات مختلفة، والكل ينتقد الكل، وايضا لايوفر احد منهم اي مسؤول عامل،واذا كان كل هؤلاء عباقرة فعلا، فلماذا لم نر بصماتهم خلال الوظيفة العامة التي تولوها يوما ما، فالكلام سهل،والمآخذ على المسؤول ذاته لاتعد؟!.
الذي لايقبل بالاخطاء او الممارسات غير المرضية عليه ان يستقيل من موقعه، لكننا نعرف في حالات كثيرة ان بعضهم يتعامى عما يراه وهو في الوظيفة الرسمية، باعتبار ان البوابة مازالت مفتوحة امامه لفرص اعلى وافضل،واذا تقاعد او خرج من موقعه ذات لحظة، وحسم نهايته انقلب تماما على عقبيه.
المشكلة التي لايفهمها كثيرون ان ثقة الناس في خطاب المسؤول الذي يصحو ضميره فجأة بعد التقاعد، ويصير لسانه لاذعا بعد التقاعد، ثقة منخفضة جدا، فقد باتت ثقافة الناس قائمة على فكرة التشكيك بالدوافع، والبحث عن السر الشخصي وراء كل تصعيد مباغت.
كل مسؤول سابق لديه وصفة للحل. سحرة وحواة. فتسألهم لماذا لم تطبقوا الوصفات وانتم في السلطة؟! فلا يجيبون،وبعض المسؤولين يكون خارج السلطة اساسا ويشبعك كلاما حول الحلول المفترضة وقدراته العبقرية، واذ يحصل على وظيفة عامة تراه قد التحق بالطابور؛ اي الطابور الذي كان ينتقده، فإذ به عاجز عن فعل اي شيء!! في الاردن ثقافة موروثة تقول، إن عليك ان ُتصّعد من الكلام الساخن حتى تحصل على مرادك من جديد، وتتم اعادة هيكلتك سياسيا، وفي الذاكرة استدعاء لتجارب العشرات ممن نفذوا هذه الوصفة ونجحوا عبرها.
علينا التنبه لفكرتين هنا، الاولى تقول، إن الدولة احيانا تستدعي ذا اللسان اللاذع وتسلمه موقعا لتقول له ولغيره،دعونا نرَ ماذا سيفعل؟!!، فيخرج لاحقا من موقعه رمادا منثورا.. والثانية تقول، إن ذهنية الدولة تغيرت خلال الاعوام الاخيرة، فلم يعد الكلام اللاذع يدفع احدا لاسترضاء اي غاضب، خصوصا في صف المسؤولين السابقين.
عقدة الوظيفة العامة تتحكم بكثيرين، بدلا من ان يعيش الناس حياتهم، وينطلقوا بعد التقاعد لاي عمل مفيد، ولدينا نماذج لمسؤولين كبار سابقين، ووزراء سابقين، ودبلوماسيين، وغيرهم، كان تكيفهم عظيما، اذ بعد التقاعد قاموا بطي كل ملفات الوظيفة العامة واسرارها، وراحوا بعيدا نحو القطاع الخاص، او الحياة العائلية، او الزهد والعبادة،فالدنيا لاتتوقف عند وظيفة عامة.
ذهنية الناس مشوشة جدا، وهي غير راضية عن احد، لاعامل ولامتقاعد، وكل ماتستغربه هذه القدرة على ان يستدعي الانسان سخط الناس بالاصرار على وظيفة عامة، يكون صاحبها تحت النقد والرجم والشك والظلم في حالات كثيرة.
لاتعرف في مرات لماذا لايرى المرء الحقائق الصعبة وهو على كرسيه ولايفطن لها،الا عند التقاعد؟!! وكأن في المرء اكثر من شخص في شخص واحد، واحد للوظيفة، واحد للتقاعد، واحد وهو راض، وآخر وهو ساخط، وعلينا ان نحتمل كل هذه التقلبات ونصدق صاحبها.
«مسؤول سابق معارض حالي»، والمعارضة هنا مؤقتة، حتى يلوح الأفق بوظيفة جديدة، وعندها تغفو شخصية المعارض فجأة، باعتبار ان السماء والارض انصفتا الغاضب، ولاداعي -بعد الان- لتعكير الجو!.