أول مفاعيل هذا التوجه المستجد ظهرت في النطاق الأبرز على خريطة أزمات الغرب اليوم، وهو الاقتصاد. فلضمان استمرار حماية اقتصادها العملاق والأول في العالم، حملت واشنطن أساطيلها التجارية واتجهت للمرابطة والإنتشار والنشاط في أقاليم بحر الصين الجنوبي، تلك المنطقة التي يعبر فيها اليوم حوالي 40% من إجمالي حجم التجارة العالمية.
ومع السفن والجهد التجاري والآمال المتجددة بثروات هائلة ينبغي حصادها، تتحوّل واشنطن بعينها الثاقبة إلى حيث ترفرف مصالحها الحقيقية للعقود المقبلة، تلك المصالح التي لم تعد في ذات المناطق التي كانت فيها حتى الأمس القريب. ومع الاهتمام والمصالح والسفن التجارية، من الطبيعي أن تنتقل المظلّة الأمنية والقوة العسكرية وكل أدوات السلطان والحماية الأميركية...
الواقع أن المشكلة لم تولد اليوم بل وُلدت مع وصولهم إلى عروشهم من هذه المستجدات ولدت الاحتمالات السوداء وارتسمت الآفاق المخيفة أمام مجموعة «عالمية» من الحكّام القلقين الذين أُسقط في أيديهم حين شاهدوا واشنطن تتجاوز محطتهم من دون أن تتوقف، متابعة رحلتها إلى حيث تحملها مصالحها. وبعد الدهشة وصل الخوف فانقلب القوم على ماضيهم «الصموت» وتحفّظهم المرضي الذي طبع شخصياتهم المسرحية الكئيبة، فراحوا يرفعون الصوت معترضين (!)، ويعبّرون عن القلق والخوف والغضب، والعديد من مشاعر السخط البشرية التي لم يسبق أن أظهروها، ويخبطون خبط عشواء في مختلف الإتجاهات، أشبه ما يكون بثورٍ هائج عصبوا عينيه وألقوا به وسط وكر دبابير.
في طليعة هؤلاء القلقين الغاضبين المتخبّطين يظهر حكّام «المحميات الأميركية» في منطقتنا العربية، من ملوك وأمراء وشيوخ وسلاطين ورؤساء... ممن يتربعون على كيانات عائلية أو عشائرية أو مخابراتية أو مافيوية... يسمونها تجاوزاً بالدول.
الواقع أنه ليس من العسير تفهّم سبب الإنهيارات المعنوية التي ألمّت بهؤلاء. فالحركة الأميركية المستجدة والتي أمضوا شهوراً طويلة في تكذيبها وتجاهلها، تجلّت في الأشهر الأخيرة بوضوح شديد بحيث لم يعد ممكناً الخطأ في تفسيرها ولا غضّ النظر عن انعكاساتها. وما زادهم خوفاً هو مزاوجة واشنطن القول بالفعل، وانصرافها نحو مركز اهتمامها الجديد، مع تضاؤل اهتمامها التقليدي بهم ومضيّها قِدَماً في انتهاج سياستها التي يشعرون أنها أهملتهم وبلغت حدّ تعريض وجودهم ذاته للخطر.هكذا انتشر الصراخ في ممالك الصمت وضجّ سيل التهجمات السعودية (ويا للعجب!) على «الحليف الأكبر»، وتوالت التصريحات «غير الرسمية» عن «تقليص التعاون مع واشنطن»، و«إلغاء صفقات أسلحة ونفط معها».
وكانت المبررات المُعلنة لهذه المواقف السعودية الإنفعالية مشوّشة إلى حدّ كبير وغير مُقنعة إجمالاً، تتذرّع تارة بـ«تقارب أميركا مع إيران»، وطوراً بـ«عدم توجيه واشنطن ضربة للأسد»... حتى وصل الأمر إلى ذروته مع ما قاله الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية «جيفري فيلتمان» عن الحكام السعوديين من إنهم «عندما رأوا علامات تقارب أميركي ـــ إيراني جنّ جنونهم»، وإنه لم يشاهد «أوقح وأسوأ من الحكومة السعودية»... كل ذلك من دون أن ينفي أو يكذّب في ما بعد.
من طلائع رحلة الأسى والإحباط التي عانوها وأحدثت أول شرخ حقيقي في سفينة ثقتهم المطلقة بواشنطن، كان ذلك الإتصال الهاتفي «اللعين» الذي أعلن الإنفتاح الأميركي على عدوّهم الأصيل: إيران «النووية». الضربة الثانية جاءت من الميدان السوري، إذ قرأوا في عجزهم العملي عن إسقاط الأسد، إرادة أميركية غير مُعلنة بالإبقاء عليه (!). وبعدما عاد الرئيس الأميركي أوباما عن تهديداته لسوريا، وسحب من التداول مشروع الضربة العسكرية ضدها بعد أن كانوا باشروا من جهتهم إعداد التوابيت، انفجرت دفعة واحدة سفينة الثقة المبحرة منذ عقود. ومن دون سابق توقع شعر القوم أنهم باتوا خارج حسابات واشنطن، ولم يتمكنوا من فهم حقيقة ما يجري. لذا قاموا بعمل لم تسبقهم إليه دولة: تمنّعوا عن قبول عضوية مجلس الأمن الدولي (في 18/10/2013 )، وهي العضوية التي كانوا سعوا جهدهم للحصول عليها. والواقع الثقيل الذي كان جاثماً في أساس هذا المسلك الشاذ، لم يعبّر عنه أحد بأفضل ما فعل الكاتب الصحافي السعودي محمد الساعد حين نشر في صحيفة «الوئام السعودية الإلكترونية» (بتاريخ 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2013) مقالة تحت عنوانٍ يختصر الأمر برمّته: «يا ويلنا... أميركا تخلّت عنّا».
الواقع أن المشكلة لم تولد اليوم بل وُلدت مع وصولهم إلى عروشهم. فالقوم أساساً لم يفهموا أو لم يريدوا أن يفهموا أن مجرّد حصولهم على حق اقتصادي في ثروات البلاد التي «أوفِدوا» إليها (وهي الثروات التي يهيمن عليها ويديرها الأميركي ويحميها فيحميهم بجريرتها)، كان يعني عملياً قبولهم بالتنازل له بالمقابل عن كل حقوقهم السياسية جملة وتفصيلاً.
ولو تأملنا مسيرة تراجع وزنهم النوعي في الإقليم الذي اعتبروا أنفسهم مركز دورانه ونقطة الاستقطاب الأقوى فيه، لأذهلنا مقدار تراكم خسائرهم وبلوغها كل هذا الحجم، من دون أن يقوموا بأيّ جهد حقيقي ومثمر للحدّ من سرعة هبوطهم القاتل نحو القاع. فهم خلال سنوات يمكن عدّها على الأصابع، خسروا العراق، ثم غزة، وخسروا جارهم «المفخخ» اليمن، وسلطنة عُمان، وخسروا السودان (ولم يربحوا ناس مصر)، وخسروا تركيا، وقبلها ليبيا وتونس... وهم في سبيلهم اليوم لخسارة سورية ولبنان وربما البحرين أيضاً.
ثم جاءت الإستدارة الأميركية ثم فتح خطّ واشنطن _ طهران، فانفجر حراكهم الأهوج وصراخهم الأصمّ في وجه كل ريح، وحتى في وجه الرياح الأميركية ذاتها. وبلغت بهم الرعونة حدّ الإعلان عن نوع من «الحَرَد السياسي» غير المسبوق في الأندية الديبلوماسية، الأمر الذي اضطر وزير الخارجية الأميركي إلى التدخل بكل رصيده غير مرة للتهدئة.
ذلك أن انتقال مركز الاهتمام الأميركي بعيداً عنهم، وانخفاض نبرة الحليف الأكبر في التحدث عما كان يحب أن يسمّيه «حكمتهم... واعتدالهم... ورشادهم»، وذلك أيام الغزل الذي كانت تنضح منه رائحة البترول، أسقط في يدهم فاستيقظوا على واقع تحوّلهم المرير من «شركاء ضروريين» إلى حلفاء يمكن الاستغناء عنهم (ويتثبّت هذا ابتداء من العام 2016 تحديداً، وهو التاريخ الذي يستغني فيه الأميركيون عن نفط الخليج ويصبحون – بفضل نفطهم الصخري - أول مصدّر للبترول في العالم... لذلك فحين غادرهم الأميركي إلى حيث تقتضي مصالحه الإستراتيجية الكبرى، ظهروا فجأة عُراة من كل حماية وضمان، وعاجزين عن الصمود أمام... انعكاس وجوههم في المرايا.