خاص باخبار البلد / خالد ابو الخير
سير الرجال، خصوصا بعدما رحلوا، وغدوا تاريخاً، يحتاج ان نتذكرها، لكي نعرف بالضبط كيف وصلنا الى ما وصلنا اليه، ونبني على ما بنوه وابدعوه.
سيرة حياة المرحوم بهجت التلهوني واحدة من تلك القصص الدرامية التي تعج بالسفر والترحال والفقد والالم والدموع والمعاناة مثلما يزهر فيها العزم والاصرار والفرح والنجاح والانجازات.
ثمانية عشر عاما تقضت على رحيله عن هذه الدنيا، وما زال طيب سيرته عابقاً في كل الانحاء.
ولد الراحل الكبير في مدينة معان عام 1913 ، وترعرع فيها، وظل حتى نهاية حياته يحن الى مرابع صباه في تلك المدينة الجنوبية، ويعشق هوائها وناسها وترابها والافق الذي يمتد ارجوانيا الى اعتاب صحرائها.
يتحدر ابو عدنان من عشيرة التلهوني التي قدمت من "ترهونة" في ليبيا في القرن اتاسع عشر، وأصل التسمية " الترهوني"، وكان رحمه الله، قومياً ووطنياً صاحب افق واسع ورؤى ما تزال بالنسبة لاصحاب الهوى القومي، رغم كل الردة التي حصلت، عذابا.
انتقل في مقبل طفولته إلى سوريا مع والده ووالدته وأخيه وأخواته ، في خضم الحرب العالمية الأولى ، وفي الطريق قُتل والده ووالدته وإخوانه، فصار يتيما ووحيداً لا يدري في ارض هو، وأي مصير ينتظره.. تلك الحادثة لطالما كانت مدعاة لتأمله،
الطفل الذي رعى الريح قامته الضعيفة، وهمس النسيم في اسماعه حكايا الذين غابوا، لم يلبثت ان استدل عليه بعض الناس، وحمله " اولاد الحلال" الى خالاته في دمشق، فأوينه ورعينه زمناً،الى ان آل امره الى عمه خليل التهلوني، الذي رباه ورعاه.
في عمان التي احب وتعلق قلبه بها من بين المدائن، عمان الناشئة حينها، عرف التلهوني صباه واتم دراسته الابتدائية في كتاتيبها ومدارسها الصغيرة.
الفتى الذي تفتحت مداركه على حب العلم وسحر الحرف.. وأفاقه الواسعة، طمح الى اكمال دراسته في مدرسة السلط الثانوية. هذا الطموح لم يكن اعتياديا في ابناء جيله، في وقت كان فيه الناس ينجبون الابناء ليعملوا ويساعدوهم.
طموحه اصطدم بخطط عمه التي اعدها لمستقبله، فقد عزم على ان يعمل بهجت معه ويساعده في التجارة، لكن الفتى الذي نشأ رجلاً، ذو الشخصية المستقلة، اصر على موقفه، ووجه نداء الى شيوخ معان ليتوسطوا له عند عمه، فلبوا النداء وهكذا كان.
حل ابو عدنان في السلط دارسا في مدرستها الثانوية، وامضى فيها سنيناً، مبليا البلاء الحسن في دراسته، حتى عد من النابغين.
وفي السلط تفتحت مداركه على افاقها التي لا تحد، وبساطة ناسها، وارتوى من ينابيعها، وشمم جبالها.
عاد بعد دراسته الثانوية الى دمشق الحبيبة، دارسا الحقوق في جامعتها، ومستذكرا حين يسير في طرقاتها، حفيف اجنحة يمامها وعبق ياسمينها، واولئك الذين غادروه، دون وداع، على ابوابها.
تصرمت السنوات بالتلهوني في دمشق حتى انهى دراسته الجامعية عام 1935 وقفل الى عمان مودعاً دمشق.. متسائلا اي فرق بين الشقيقة والشقيقة؟.
في عمان التي تطورت وغدت اقرب الى المدينة الصغيرة الناشئة عمل في مكتب عادل العظمة للمحاماة ، ثم عين رئيساً لمحكمة البداية في الكرك ، وبعدها في اربد، ومن احكامه فيها احكاما طالت اناسا مشهورين، قبل ان يؤوب الى عمان غداة تعيينه رئيسا لمحكمة البداية والاستئناف .
عمله في المحاماة والقضاء 16 عاماً، اكسبه مراساً وفهما للطبيعة الانسانية، مثلما آلى على نفسه ان يعلي من قيمة العدل، التي ظل حتى نهاية حياته مؤمنا بها.
ومن محاكماته الشهيرة محاكمته رئيس الحزب الشيوعي "فؤاد نصار".
لم يغب بهجت التلهوني عن الاحداث الجسام التي كانت تعصف بالعالم العربي في تلك الاونة، وسير البلد نحو التحديث، وتحولها من امارة 1921 الى مملكة عام 1946، وانبرى يقدم ما استطاع، في مواقعه واسهامته، من أجل الوطن والامة.
حين شكل فوزي الملقي حكومته 1953-1954 اختاره وزيراً للداخلية، ثم أصبح وزيراً للعدلية.
غداة اطل عهد الملك الباني الراحل الحسين، عهد اليه برئاسة الديوان الملكي منذ
عام 1953 ، وبقي رئيساً للديوان الملكي حتى العام 1960.
تلك السنوات شهدت حوادثا جساما منها العدوان الثلاثي على مصر، وتعريب الجيش.
ويسجل ان بهجت التلهوني والمرحوم فلاح المدادحة هما اللذان ذهبا إلى بيت كلوب باشا واصطحباه ،عندما اتخذ مجلس الوزراء القرار بتنفيذ رغبة جلالة الملك بتعريب قيادة الجيش وإنهاء خدمات كلوب و القادة البريطانيين جميعاً ، وكان لهذا القرار اثره البالغ في إنهاء الهيمنة البريطانية، وترك اصداء واسعة في الاردن والعالم العربي.
شكل التلهوني اربع حكومات، خلال الأعوام 1960-1970، ويذكر انه حين شكل حكومته عام 1964 اختار مع الرئاسة وزارة العدلية ولم يختر الدفاع او الخارجية كما دأب رؤساء وزراء على فعله. وعيكس ذلك مدى ايمانه بالعدل واهمية القضاء.
حكومته الثالثة جاءت في ظروف كارثية اعقبت هزيمة حزيران، "7 تشرين اول 1967 -30 اذار 1967" ، وتعين عليها ان تضطلع بمسؤولية التعامل مع اثار الهزيمة واعادة البناء وتقوية الروح المعنوية.
الظروف المأساوية التي عاشها الاردن عصفت بحكومة التلهوني الرابعة التي تشكلت عام 13 اب 1969 وحتى 26 حزيران 1970، وهو العام الذي شهد تفجر الاحداث بين الجيش واالفدائيين، رغم ما بذله التلهوني وسواه من سياسيين لاحتواء الموقف.
عين رئيسا لمجلس الأعيان عام 1974 وكان يشغل عضويتة منذ العام 1962.
يشهد لأبي عدنان بالعصامية والأمانة والاستقامة والجرأة بالحق واحترام الذات، يتمتع بشخصية قيادية، وكان من رؤساء الوزارات الذين يتصفون بقوة الشخصية، لا يسمح ابدا بان يجري التجاوز على صلاحياته من اية جهة كانت.
اقترن رحمه الله من المرحومة زهرة المرادي وانجبا اربعة ابناء: منى، عدنان، وغسان.. أطال الله في اعمارهم.
..
عاش التلهوني للعدل وسعى ما استطاع اليه سبيلا، ولعلنا حين نتذكره الان، ونستذكر سيرته العطرة، نفيء إلى ان العدل اساس للحياة، لا تستقيم بدونه.