تعرّفت إلى الدكتور عبدالكريم غرايبة رحمه الله في هانوفر بألمانيا، وذلك أثناء الحوار الإسلامي المسيحي الذي كان يقوده أُستاذنا الدكتور ناصر الدين الأسد أطال الله عمره. وكان لما قاله الدكتور غرايبة في احدى الجلسات، حول طبيعة الكيان الإسرائيلي وقع شديد على الفريق الألماني في الحوار، إذ قال رحمه الله للدكتورة فيولا الراهب من جامعة بير زيت: «إنك يا ابنتي لا تستطيعين العيش مع الأفاعي في سَبَبٍ واحد»، وهي عبارة أغضبت كبير القوم هناك، وكان اتفق انه مسؤول العلاقات المسيحية اليهودية في بلاده، فقام يشدّد النكير على شيخنا الجليل وينتقد عبارته أشد الانتقاد، وما تزال هذه الذكرى عالقة في خلدي لسببين متلازمين أولهما الشجاعة الأدبية لمؤرخنا الراحل، وثانيهما اني طلبت الحديث وقلت للمحاور الألماني ان من الأولى به ان ينتقد سيدنا المسيح نفسه لأنه وصف اليهود بأبناء الأفاعي، كما جاء في الإنجيل.
هذا هو أول الموقفين اللذين يشير إليهما عنوان هذه المقالة، أما ثانيهما فهو موقف تاريخي موضوعي من «وعد بلفور»، كنت كتبت عنه، واستشهدت به أكثر من مرة، وهو توكيد الدكتور غرايبة ان الولايات المتحدة الأميركية هي التي أعطت الوعد لليهود بضمان إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين. وذلك فيما كشفه بالوثائق من ان مسودة وعد بلفور أُرسلت إلى البيت الأبيض حيث تم النظر فيها من الرئيس الأميركي آنذاك، ثم أُعيدت «مُنقحة ومزيدة» ليعلنها المستر «بلفور» في أول واقعة من نوعها في تاريخ البشرية، وهي واقعة أن يمنح الذي لا يملك لمن لا يستحق. وفي برهان مؤكد على الدور الرئيس للرئيس للولايات المتحدة في زرع الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي الإسلامي من جهة، وعلى تضافر الشجاعة الأدبية والرؤية الموضوعية لدى الراحل الكبير الذي أعلن حقيقة التواطؤ الأميركي في الوقت الذي تظن فيه النخب الذاهلة (ولا نقول غير هذا) من الأكاديميين وأصحاب مراكز الدراسات، بأن أميركا هي حامية حمى حقوق الإنسان في العالم.. ألا ساءَ ما يزرون..
موقفان من مواقف عدة أُخرى يمكن لي ولغيري أن يستذكروها.
فإذا زدنا على ذلك «تواضع الكبير» و»وفاء الزوج» و»أمانة المعلم»، فإن بنا أن ندرك أية خسارة منينا بها على مستوى العلم والأخلاق في الأردن والعالم العربي على حد سواء..
رحم الله الأستاذ الغرايبة، وجزاه عن أمته خير الجزاء، وإنا لله وإنا إليه راجعون.