فاجأنا الرئيس المخلوع مبارك بالأمس لا بعدم تنحيه عن السلطة فحسب، بل بفحوى خطابه الأجوف الذي يتحدث فيه عن تعديلات دستورية خرقاء يجريها بينما ملايين المصريين يصرخون في وجهه بالرحيل، وهو يصر على أن مصر تمر بأزمة ستجتازها متجاهلا عن عمد وقصد كونه هو وعائلته وعهده ونظامه بما قاموا به من نهب منظم لثروات مصر، ولكل تلك المنح والمساعدات الأمريكية التي وضعت في بنوك سويسرا عوضا عن استثمارها في مشروعات وطنية تنموية، هم الأزمة الحقيقية التي تعاني منها الأمة العربية قاطبة ولن نجتازها إلا بسقوط نظام مبارك ومحاكمته.
لماذا لم يتنح مبارك؟
لأنه ببساطة لا يستطيع لأسباب مختلفة أولها وأبسطها وصمة العار التي ستلحق به وبأسرته بعد هذه الهزيمة النكراء الذي لم يستطع أن يتقبلها شكلا أو مضمونا، ولو أنه كان قادرا على ذلك لكنا سمعناه يتنحى عن الحكم منذ أولى أيام الانتفاضة الشعبية حفاظا على ماء وجهه ونزولا عند رغبة شعبه، كما فعل نظيره زين العابدين الذي لم يقو على احتمال الخوف من الثورة، إلا أن كليهما له أبعادا نفسية تختلف كليا عن الآخر، فلقد اعتدنا من مبارك المكابرة والكذب وعدم تسمية المسميات بأسمائها الصحيحة، وهذا ما بدا واضحا جليا في خطابه بالأمس حين تحدث عن مصر الوطن والشهداء من الشباب وتضحياته هو في حين أنه دمر الوطن وسرقه وقتل أولئك الشهداء وضحى بمصر وفلسطين وأهل غزة والعروبة وحتى بآخرته من أجل عيون أمريكا وأحذية الإسرائيليين.
أهم أسباب عدم تنحي مبارك عن السلطة أنه ممنوع من الإقدام على اتخاذ مثل تلك الخطوة في غياب بديل، يضمن لإسرائيل سلامة حدودها والحفاظ على مصالحها واستمرارية معاهدات السلام واتفاقيات التطبيع والتعاون السياسي والمشاريع الاقتصادية القائمة بين البلدين، لقد حرص مبارك دوما على تمرير مشاريع الولايات المتحدة الأمريكية الاستعمارية في المنطقة حرصه على كرسيه الملتصق بمؤخرته اليوم، وعمل جاهدا مع إسرائيل كإبن بار وصهيوني منتمي يدين لها بالولاء من أجل تفتيت القضية الفلسطينية والقضاء على رمق المقاومة المتمثل في حماس وحصار أهل غزة وقتلهم وإثارة الفتن بين الدول العربية من خلال تقسيم الصف العربي، من العسير على القيادات الإسرائيلية اليوم أن تنسى كل تلك الوقفات التاريخية له أو تجد بديلا له في شخصية مصرية غيره.
كان من المفترض أن يركب البرادعي كمعارض موجة الغضب الشعبي فيتسلم السلطة كبديل سيسر إسرائيل وأمريكا التعاون معه، إلا أن الشعب المصري والأحزاب المعارضة رفضوا أن يتسلق البرادعي السلطة على أكتاف الشعب، وأن يجلس على الكرسي ودماء المصريين تسيل من تحته بينما يقبّل هو المهنئين، فنفذ مبارك ما أملي عليه من أوامر بوضع عمر سليمان نائبا له مستهزئا بغضب المصريين الذين يطالبون برئيس وطني يحفظ البلاد ويحمي العباد لا مصاص دماء آخر يأتيهم من غرف التعذيب وبأدوات الاستجواب والقمع المخابراتية، ولأن مبارك وإسرائيل تعلمان نقمة الشعب على هذا القرار فقد خشيا من مغبة التنحي وتسليم السلطة إلى سليمان مما قد يعني استمرار الثورة وسقوط الأخير، وهذا الأمر يوقظ كابوس إمكانية ولوج الإخوان المسلمين أو الناصريين إلى السلطة، مما يمحق بشكل أكيد كل المكتسبات التي حققتها إسرائيل وأمريكا وأوروبا لا في مصر فحسب، بل في فلسطين والعراق ولبنان ومنطقة الشرق الأوسط ككل.
لابد من إيجاد بديل يناسب مقاس إسرائيل ومخططاتها ومشاريعها في المنطقة، وحتى إيجاد مثل هذا البديل لابد من ترك مصر في حالة اشتعال مستمرة كسبا للوقت، فعدم تنحي مبارك سيحقق مكاسب أهمها:
أولا: يتم الآن المراهنة على عامل الزمن وعلى قدرة الشعب المصري في الاستمرار على أمل تيئيسه وهدر طاقته حتى يعود المتظاهرون طوعا إلى بيوتهم، أو يتم استخدام الجيش لقمع ثورتهم فيثبت الحكم لعمر سليمان.
ثانيا: تتيح فترة الاشتعال هذه الفرصة لإسرائيل والسي آي إيه والقوى الإمبريالية للتشاور حول الشخصيات الموالية، سواء تلك الموجودة على خشبة المسرح السياسي الآن أو يتم استخراج إحداها من سلة مهملات الكواليس السياسية حتى تؤدي الدور المنوط بها في المرحلة القادمة.
ثالثا: ترك مبارك مصر تموج بملايينها الثائرين دون أن يتنحى عن السلطة كانتقام جبان له من مصر وشعبها غير حافل بالشلل السياسي الذي يحدثه مثل هذا الموقف غير المسئول، ترك الأبواب مشرعة للفوضى ونوافذ الحكم مشرعة للمتهافتين وبيوت الشعب خاوية على عروشها وكأنما يقول لهم إن كنتم لا تريدون بقائي في سدة الحكم فانظروا ماذا سيحل بكم من بعدي، فتركهم يموجون في محيطات الاضطراب تتقاذفهم أمواج السخط والمجهول والخوف، هاربا على قوارب أنا وبعدي الطوفان.
لم أكن أتوقع أبدا أن يسقط نظام مبارك بالسهولة التي فر بها زين العابدين إلا أنني لم أتوقع أبدا أيضا أن مبارك سيدق بحافره عنق مصر بكل هذا الاستهتار والحقد والفسق، حقا سيخلد التاريخ حسني مبارك وسيرفض حينها نيرون وجنكيزخان وهتلر وستالين وشارون وغيرهم من طغاة التاريخ تدوين اسمه بجانبهم بل سيطردونه من قوائمهم ويلقوا به في خانة الأبالسة والشياطين الذين سيستعيذون بالله من وجوده بينهم.