اخبار البلد - رائده الشلالفه
في ثيمة النص في "مرفأ" نائل العدوان وخلافا
لما اعتاده القص الروائي أو القصصي لحمل مضامين وانفعالات شخوصه، يجد المتلقي تفسه
أمام قاص تجاوز مكامن المألوف في السرد، مبتعدا به عن "شخص" القصة الذي
هو بالمحصلة المتلقي/القارئ ذاته، ليمضي به إلى المفصل الأشد وجعا في "فعل
القص" نحو واقع مهزوم كان من شأنه أن خلّف شخوصه المازومة، فيروح
العدوان إلى أوجع من ذلك ليقول للقارئ بنهاية كل قصة من قصصه "هذا أنت"
!
لماذا يجلدنا نائل العدوان في "مرفأه" ؟
هل لأننا امتداد جيل الهزيمة، ام لأننا لم نستطع أن نكون جيل النصر، لماذا يجنح
بنا الى جحيم اغتراب صاحب "رأس آخر" -القصة الأولى في مجموعته القصصية
"المرفأ"- وعبر سرد موارب ليضعنا وجها لعقب امام فعل ازدواجية العربي وانفصام
واقعه، فيما هو –العربي- لا يقوى على التفكير إلا مع الرأس الآخر الدخيل السيد
الطارئ المهيمن الذي وهبناه السطوة فامتلك الجهات كلها، ولم يسمح لنا بتحريك يدنا،
كما لم نجرؤ على ان نكفر بأيدلوجيات التبعية حتى ، ولا فرق بين يسار ويمين.
"عوت الريح، ثم يبست الأزهار. وعندما تنبّه
الناس للأمر.أحسوا بالخديعة وأن خللا كبيرا قد أصاب البلاد. أصاغوا السمع لصوت
الجداول، فلم يسمعوا شيئاً، (......) أصاخو السمع مرة أخرى فلم يسمعوا غير نباح
الرمال الذي بدأ يشتد بقوة ".
ليس بعيدا
عن نسق خطاب عبد الرحمن منيف الروائي، والذي يبدو جليا في الخطاب القصصي لقصة
"رمال" من المجموعة، والتي يتشابه نسقها الايقاعي كما في المنبت او
التيه او الاخدود في عمل منيف لخماسية مدن الملح، فإن لغة منيف حاضرة في التوصيف،
وفي فرد مسميات النقاء في الارض اليباب، وفي النبش عن حقيقة الحتمي من الوهمي، وفي
الازدراء عندما يكون فعل الخنوع غير مبرر، ليصير حينها من حق القائد
"بابتسامته المعهودة وأصابعه الملوّحة بالتحية للجميع" أن تعتلي الخراب
فيما المدينة تهوي ركناً ركناً" .
وفي لاجدوى الصعود لا معنى للانتصار، يصير
السقوط أشد قسوة من الهزيمة، حين تصير
"اليد" غولاُ تفترس الأخرى وحين يكون الجسد اوطان ومعارك، هزائم
وانتصارات، يمين ويسار، كفاح وخذلان، مقاربة بين التعنت اليميني وزواله لصالح
مغازلة اليسار وكسب وده "ابتر اليمين واكسب ود اليسار، ثم ينتهي امر الفتنة
بتاتاً، تماما كما قالت العرافة" ، فأي انكفاء وأي تعري اراد كشفه العدوان
واليمين كما اليسار آيل للسقوط والانحصار كما "اليد" التي ألت الى
الإفول "كانت تمتلئ ببثور بنية متشابهة،هزيلة، ممرغة بلون الموت
والعزاء"."القصة الثالثة في المجموعة القصصية.
في "المرفأ" يجنح بنا نائل العدوان الى
عوالم ثورية، فيها السادة كائنات "طحلبية"، هي في واقع الحال كائنات
طُفيلية تتقن فن التسلق حيناً، يُقابلها كائنات مطواعة تُتقن فن التزلف في عبودية
اختارها المضطهد ، ولم يُملها عليه الجلاد .
هل تخون الأوطان، و"هذا المرفأ ، حبيب خان عشيقته"، كما قال "غريب" العدوان في القصة الخامسة من المجموعة القصصية التي حملت ذات الاسم، فعندما همّ الغريب ان ينتزع خيبته منهم ويسحب مرساة الخلاص كانت الطعنة ان "المخلص" هو ذاته المستبِد المستعبِد، ليس لأنه "الديكتاتور" الجبار، بل لأن القوم أرادوه طاغية لهم لحين لم تعد تُجدي بكاءاتهم التي خلّفتها التماسيح في القاع حيث لا ارادة حرة، لحين " كتب الغريب وصيته : لم تبق لي أي زهرة اقطفها بوطني .. كل الياسمين قتل..
رفع المرساة، تحركت الجموع من حوله ، كان الماء وحلاً، بقي
الغريب واجما ً، عاجزاً عن الكلام ، بينما علت ضحكات الجرذان . ثم تلتها ضحكات
القطط والضفادع. وبقيت التماسيح جاثية عند اسفل المركب تبكي".
ويواصل العدوان في لوحته السابعة من
المجموعة "آخر الخيبات" قسوته ليُعرينا فيما هو يفرد لنا الواقع المهزوم
ذاته، وقد استمرئناه الى الحد الذي انقلبت فيه المسميات القبيحة الى مفردات تنز
بالسخرية، ليس تهكما بقدر تسربلنا بها لنداري عوراتنا في الموقف في المبدأ في
اللاشيء حتى، لئلا يثور هذا الواقع علينا فتسقط ورق التوت، وإلا كيف يكون للخيبة
طعمها اللذيذ فيما هي تحمل رائحة الفجيعة، وكيف لنا ان نعيش دونها حتى وأن "أدمنت
أنت ومولاك الخطايا والفساد،حتى اصبحتم الخيبة ذاتها!" فلتسقط القلعة إذاً
طالما كنا "بيزنطيين أكثر من اهل بيزنطة، وطالما كنا قيصريين أكثر من قيصر
نفسه" !
في "زجاجات فارغة"، تفوق دقة
التصوير فيها عن قريناتها من قصص المجموعة، لتصل الينا حالة "شخص القصة"
بتوصيفات أفعال الجسد "يكتب على ورقة مهملة بضعة أخرف غير مترابطة، يغط
رأسه ثم يرفعه، يلتفت يمنة ويسرة ويفلت ورقته ليقتعد الأرض (....) أرخى
يديه فوق رأسه، وأصابعه تعبث بسيجارة مشتعلة، يدّورها بطريقة ذكية، فلا
تُحرَق، لمتها تحترق، فيما بدت عيناه كقطعتي زجاح لامع".
وحالما تتابع التهام مفرداتها لتصل
لفكرة القصة وتبدأ بالاحتمالات والتأويل، لا يلبث العدوان ان يوقفك، فتحيد عما
شرعت به، لتجد ان "الزجاجات الفارغة" حقيقتك الاولى، مراياك الجارحة
التي "ترى من خلالها نفسك، أجوف ومحاطا بزجاج بلا لون من الجهات كلها"،
يأخذنا العدوان في ختام قصته لآخر هذايانه حين لم تجيء سلمى، و"لم يتبقَ فوق
المرآة غير انعكاس وجهي، وبضع زجاجات فارغة"هي الحقيقة إذاً، بل كل الحقيقة.
القصة التاسعة في المجموعة
ومن مرفأ الضفادع الى "دولة
الغربان" والتي جاءت بعنوان يصلُح لعمل روائي طويل، اختزله القاص نائل
العدوان في قصته الحادية عشرة من مجموعته "المرفأ"، متحدثاً أيضاً عن
"فعل القص-الحدث"، بتشكل دولة الكيان الصهيوني، وخاتماً اياها بصفعه لنا
في ظلنا المريب المعيب لا ليقول لنا "هذ انت"، بل "هؤلاء "هم" من حجبوا زرقة الأديم والنجم والغيم، وقد تكالبوا "غربانا
تطير وهي تزعق معلنة قيام دولة جديدة.
وبذات الجلد
والتعري، يواصل معنا نائل العدوان في القصة التي تلي "دولة الغربان"،
النسق ذاته، وقد استحال المغتصب المستلب في "دولة الغربان"الى الفاسد
الناهب في "حبة قمح" فقد توازى
ذات الطرح في استحواذ دولة النمل على التلال والغلال، ويعرّفنا العدوان الى الفلاح
"شيحان" وصلاته في بيدر القمح هو وامه وابوه واخوته، هو كما العدوان يعي
ما تعنيه حبة القمح، الارض، الوطن، وربما "العِرض"، "حبة قمح، لدى
العدوان ليست فقط ما جئنا على ذكره، وقد عاصر بسرده راهننا فيما
"الفاسدين" يسرقون مقدرات البلد وبيع محصوله، لتصير حبة القمح مشاعا
مستباحا للفاسدين ويصير الوطن شحيحا في مضمونه ، لقيطاً بين يدي الفاسدين .
"حبة قمح" القصة الثانية عشر في "مرفأ"
نائل العدوان، تختزل المواقف والمبادئ وتفردها بين يدي القارئ كما يراها ويؤمن بها
"شيحان" .. "وكنا ننظر بعيني ابي لإنقاذ المحصول، فلا يمل من تكرار
جملته الشهيرة على اسماعنا - اتركوا ما للنمل للنمل . لكن النمل لم يترك " مَا
لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ "..
نائل العدوان في مجموعته القصصية الصادرة عن دار
فضاءات للنشر والتوزيع في عمان، وعبر سبعة عشرة قصة ، يُصر من جانبه أن يقول كلمته
ويمضي، غير عابئ بنا، ليس استخفافا بذائقتنا أو اصرارنا وتشبثنا ببعض بياض، وانما
دعوة منه لنمارس معه السخط والحرد على مفارقات واقع التواطأ الذي أتقناه ونحن
نُجمّل استسلامنا .
ففي هذه القراءة العاجلة، لبعض قصص
"المرفأ، وبعد أن تأخذك حالة الابداع التي قفز منها القاص العدوان عبر سطور
قصصه بين القصة والاخرى، تتمنى لو انك ما دلفت فعل التورط بقرائتها، وعندما تقبض
على نفسك متلبسا بفعل التخلي لهذا التمني، تحزن، تبكي، تضرب معطف الوقت بحبات
بَرَد من نار اعتملت بروحك، وتفاحة القلب تغني "ان عشت فعش حرا أو مت
كالاشجار وقوفا" .. ملأنا العدوان بنفَسه الانهزامي أم وضعنا أمام بوصلة الوجع
لا فرق، فكلاهما واقعنا .. وإننا نصلي ..