شهد الأردن أمس ثاني اقتراع وطني في أقل من عام، وسط تحديات داخلية داهمة؛ فراغ سياسي ومقاطعة الإسلاميين، إلى جانب تراكم عوامل الإحباط الاقتصادية، وتنامي العنف المجتمعي، وتراجع الثقة في المؤسسات العامّة. حزمة التحديّات ولّدت إقبالا ضعيفا على صناديق الانتخابات البلدية في شأن يمس مصالح الأردنيين المباشرة، اللهم باستثناء المجتمعات الريفية البعيدة عن مراكز المدن المختلطة.
النقطة المضيئة الوحيدة لهذا الحدث، تكمن في أن هذه الانتخابات جرت بأقل الأضرار الممكنة، وبدون "لعلعة" رصاص أو مواجهات دموية؛ مقارنة مع أجواء إقليمية عاصفة في محيط المملكة، يفاقمها قرع طبول الحرب على الجبهة الشمالية، وتناسل الاصطراعات الدامية في غالبية دول التحول العربي، ما يعزّز رهان النظام السياسي، ويدلل على ثقته في نفسه وفي خيار الصعود المتدرج والآمن صوب الإصلاح الشامل بدون تكاليف عالية.
كما أن اقتراع أمس هو الإنجاز الوحيد الذي يحسب للنظام السياسي وللوزارات المعنية والأجهزة الأمنية المستنفرة، ولأقلية من الناخبين قرّروا المشاركة بدون اكتراث لأجواء التشكيك بمسار الإصلاح. هذه الفئة، ذهبت إلى الصناديق رغم إدراكها أن البلديات أصبحت اليوم مكبلة بنمط قاتل من البيروقراطية والترهل، وغارقة في الديون، لتنحصر أنشطتها في "الكناسة والحراسة"، وتوفير فرص عمل للأقرباء والمحاسيب، بعد أن كانت تتباهى بمركزيتها قبل عقود.
نقطة على السطر فيما يتعلق بإنجازات ملف البلديات.
فبالنظر إلى النصف الفارغ من الكأس وضعف المشاركة الشعبية غير المسبوقة، يُستنتج الكثير؛ علما أن أعداد الناخبين تضاعفت عشرات المرات بعد اعتماد سجل الأحوال المدنية في عملية الاقتراع. وبذلك، تتحمل حكومة د. عبدالله النسور قدرا كبيرا من المسؤولية عن هذا الخلل.
فهي أضاعت فرصة ذهبية ونادرة لإنجاز خطوة إصلاحية رئيسة، بعد كبوة مسرحية "وهم الانتخابات النيابية" أواخر العام الماضي.
لم تجهد حكومة النسور في مراجعة دور البلديات، وتجربة الدمج، وتغيير آلية الانتخابات الأساسية التي تمس 100 بلدية ما تزال تتبع لوزارة البلديات، أو السماح لأكثر من ثلث سكان الأردن المقيمين داخل حدود أمانة عمان الكبرى بانتخاب أمين عاصمتهم ونصف أعضاء المجلس.
لم تتقدم الحكومة، على عجل، بمشروع قانون يسمح بتأجيل الانتخابات البلدية لثلاثة أشهر، وإلى حين تجهيز قانون جديد يحلّ مشكلة الدمج ودور البلديات في التنمية المحلية وتعزيز اللامركزية؛ وأيضا إجراء هذه الانتخابات بإشراف اللجنة المستقلة للانتخاب، لضمان مجاراة المعايير الدولية، وصولا إلى انتخابات بلدية حرة وشفافة ونزيهة وعادلة.
في "البلديات"، ظلّت الحكومة مسؤولة عن إدارة عملية الانتخابات من الألف إلى الياء، وأقحمت الهيئة المستقلة للانتخاب كشاهد، أو "قطعة ديكور"، بدون صلاحيات تزيد عن إطلاق صفارات إنذار في حال حصول مخالفات.
كما تأخرت الحكومة كثيرا في تنفيذ مطالبات التحالف المدني لمراقبة الانتخابات "راصد"؛ باستخدام الحبر السري، والربط الإلكتروني، وتحديد صناديق الاقتراع للناخبين لتقليص احتمالات التزوير التي واكبت الانتخابات البلدية الأخيرة.
لم يعلن وزير الداخلية حسين هزاع المجالي، عن استخدام الحبر السري الخاص، والربط الإلكتروني، وتحديد مكان الاقتراع، إلا يوم السبت الماضي، في محاولة منه للتدخل في ربع الساعة الأخير لتحقيق معايير أفضل، تمأسس لانتخابات مقبلة نزيهة وشفافة، حتى ولو جاءت هذه المرة على حساب تدني مشاركة الناخبين، وفق ما أكّد في مقابلة مع كاتبة المقال.
لكن الحكومة لم تعتمد أي تعليمات تنفيذية لمنع "التصويت الأمّي" علانية؛ على مرأى ومسمع من أعضاء اللجان الانتخابية. ما يعد خرقا واضح لمبدأ السرّية الانتخابية، ويفتح المجال للعبث بإرادة الناخبين من خلال توظيف المال السياسي لشراء الذمم. ولم تُستخدم أوراق اقتراع مطبوعة مسبقا، تحتوي على صور المرشحين بوضوح يتيح الاستعاضة عن كتابة أسمائهم بالإشارة إلى صورهم، كما حدث في الانتخابات النيابية الأخيرة.
كذلك، لم تُنفذ حملات إعلامية إلا في وقت متأخر، بعد أن شعرت الحكومة بأجواء الاستنكاف الشعبي. ولم تستخدم أدوات التواصل الإعلامي المجتمعي لحفز المشاركة الشعبية إلا يوم السبت الماضي، عندما أرسلت رسائل نصيّة لمشتركي الأجهزة الخلوية لإرشادهم إلى صناديق الاقتراع.
د. النسور أدار ظهره أيضا لخرق واضح لحق الأردنيين الدستوري، عندما اتخذ قائد الجيش قرارا إداريا بمنع منتسبي القوات المسلحة من المشاركة في انتخاب من سيدير بلدياتهم، ويشرف على توفير الخدمات الأساسية في مناطق سكناهم.
بذلك، فشل د. النسور، كحال من سبقه، في إنجاز مشروع تاريخي لإصلاح البلديات وتعزيز تراكمية الإصلاحات السياسية.
ثم حدث ما حدث يوم الاقتراع من خروق للعملية الانتخابية، بما فيها استمرار الحملات الانتخابية داخل مراكز الاقتراع، واستخدام الأطفال وبعض النواب في الترويج لمرشحين. هذا فضلا عن تسجيل حالات عنف واعتداءات في بعض المراكز، وتأخر وصول شحنات الحبر السري لمراكز أخرى، ومقاطعة الانتخابات في بعض البلديات.. إلخ.
غير أن خطيئة د. النسور أكبر من أسلافه لعدة أسباب:
لأنه كان جزءا من الحراك الساخن حول البلديات عندما كان عضوا في مجلس النواب السادس عشر! ولأنه العارف، بحكم خبرته السياسية التي اكتسبها على مدار عقود في العمل العام، بمثالب قرار دمج البلديات قصير النظر الذي اتخذته حكومة علي أبو الراغب مطلع العقد الماضي. وأيضا لأن الرئيس لم يأخذ بمجلدات من الأفكار التي طُرحت خلال السنوات السابقة لإحداث إصلاح جذري في موضوع البلديات وأمانة عمان.
على أن د. النسور اختار التذرع بعامل الوقت، متناسيا أن هذه الانتخابات قد تم تأجيلها مرارا خلال السنوات الثلاث الماضية. فكان بإمكانه تأجيلها لأشهر، إلى حين بناء منظومة نزاهة تضمن تجويد عملية الاقتراع، وتغيير قانونها.
الضربة الثانية جاءت من البرلمان الذي لم يتقدم بطلب مشروع لتعديل قانون البلديات، ولم يوقع أعضاؤه على عرائض لإجبار الحكومة على التراجع عن ترددها أو تغيير القانون، مع أن النواب تقدموا بعشرات العرائض والاستجوابات التي تناولت مواضيع أقل أهمية.
بعد الانتهاء من هذا "العرس الديمقراطي" الخافت والباهت وسط حال من عدم الاهتمام الشعبي، فإن المرجو الآن هو عقد حوار وطني موسع حول تعزيز اللامركزية في الحكم، وتعديل قانون البلديات وفك سطوة الحكومة على المجالس البلدية، وإتاحة حق الطعن القضائي في القرارات الحكومية الإدارية.
وعلى أعضاء مجلس النواب المنتخب التوقف عن استخدام البلديات كوسيلة لشراء ولاء قواعدهم الانتخابية؛ من خلال توظيف الأقرباء، والإصرار على تمرير قرارات مخالفة للقانون، وعرقلة تنفيذ توصيات تقارير ديوان المحاسبة السنوية، وبخاصة تلك المتعلقة ببلديات كبرى ومساءلة القائمين عليها.
يتألم العديد من الأردنيين ممن عاصروا دور البلديات ومكانتها الديمقراطية والتنموية والتاريخية، قبل أن تمر جميعها -بما فيها أمانة عمان- بسلسلة عمليات تهشيم وتقزيم لمصلحة نمط من المركزية القاتل قصير المدى، سمح، أيضا، بتغول الأجهزة الأمنية على شؤونها، حال الجامعات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
فاستعادة قدرة المواطن على التأثير في مجريات أمور حياته الرئيسة، من خلال هيكلة مجالس الحكم المحلي وحق السلطات المحلية في تنظيم وإدارة حصة كبيرة من الشؤون العامة، هي المفتاح الأساسي لتحقيق إصلاح سياسي متكامل قابل للديمومة والنمو خارج سياسات الفزعة وشراء الوقت، والمراوحة والدوران في حلقات مفرغة، هدفها تجنّب تغيير سياسات الأمر الواقع وحماية مصالح الأقلية ونفوذها.
السلطات المحلية تبقى أساس أي نظام ديمقراطي، إلى جانب استعادة شرعية صندوق الانتخابات، بدءا من البلديات وانتهاء بالمجلس التشريعي. وتغيير قانون الانتخاب هو مفتاح التغيير.