الْبَلَدْ (مَضْرُوْبَهْ عَيْنْ...)!؟
بدايةً من غيابِ البرد و الرّياح والمطر الّلواتي لم (يُتَكْتِكْنَ) على شبّاك أردنّنا هذا العام إلّا (كردّة لهاة لطفل معشوم)، ومروراً بموجات العنف و القتل والجرائم الفرديّة و الجماعيّة و الفقر والبيات العاطفي والفكري الذي تمرّ به مؤسّساتنا الحكوميّة و المدنيّة، وانتهاءً بلعبة القط و الفأر و (الكل واقف للثّاني عالدّقره) أو ما نعيشه من مظاهر كانت للأمس غريبة وغير مألوفة لا في حكوماتنا ومجالسنا التشريعيّة و الرّقابيّة، ولا في شارعنا بما فيه من معاملات وأخلاقيّات مختلفة، ولا في مؤسساتنا التعليميّة، ولا في اعلامنا الرّسمي و الخاص؛ تجد نفسك أمام حيرة واستغراب مُستحقين، وكلّما شعرت بوضع يدك على السّبب و الوصول إلى العلّة؛ إلّا و تسلّل لك من بعيد ما هو أبعد و أبعد ولكي نكون متفائلين لا متشائمين؛ لا نريد القول أكبر و أكبر، فتبدأ بالتحليل و الاستقراء من جديد، فتفكر وتركّز وتعصف؛ فبعد أن تستقرّ بانّ الاسباب سياسيّة، لا تجد نفسك إلّا أمام أسباب اقتصاديّة، ثمّ اجتماعيّة...، وهكذا إلى أن تيأس وتنام على أمل أن تأتيك جهيزة بقول يقطع قول كل محلّل وخطيب.
ولأنني على يقين بأنّ هذا الزّمن لم يبقَ فيه سوى جهيزه (الشيطانة الخرساء) و التي إن نطقت فإنّها تنطق لإذكاء الفتنة أو لتقول حقّاً يُراد به باطل، ولأنّه لم يبقى كذلك فيه إلّا شنّاً و طبقة اللذان يتفقان بالغباء لا بالذّكاء، وأنّ القاضي إيّاس قد إنقطع نسله فينا بسبب العجز الرّجولي الذي أصاب آخر وارثيه، و انّ بيت حاتم الطّائي قد أصابه الفقر و أكثر وارثيه إن لم يكن جميعهم يستعطون ويستجدون الآن، و أنّ بعض بناته من شدّة العوز يعملن نادلات في النّوادي الليلة، و أنّ الشّنفرى الذي كان يسرق ليطعم غيره من المعوّزين و الفقراء؛ أصبحت (صعلكته) و رجولته وجرأته عليهم، فيسرق خبزهم هو ومالك بن الرّيب فأصبحوا من علية القوم و أثراهم، وأنّ قيس بن الملّوح أعتزل بعد أن اعتذر لليلى عن حبّه العذري المشهود، واتجه لحب الأوطان الإعلامي (من الحنجره وفوق)، و أنّ المتنبي أضحى يمقت اللغة العربيّة ومفرداتها، واستبدل بيته المشهور الذي يفتخر فيه بمعرفة الخيل و الليل و البيداء و القرطاس و القلم له؛ بإتقان اللغة الانجليزيّة و الفرنسيّة كمتطلّبات ضروريّة له عند ممارسة التّواصل الجماعي على الفيس بوك و التويتر، و أنّ هارون الرّشيد الذي كان يحجّ عاماً ويغزو عاماً؛ أصبح يستبيحنا و يسرقنا لعامين أو أكثر، فيطلّقنا ليستقرّ في أي بقعة هو يريدها من العالم، و أنّ وصفي التّل و هزاع المجالي وعبدالحميد شرف من المغضوب عليهم فلا يتحدّثون أو ينطقون أو يتصرّفون أبداً خوفاً من توجيه الاتهام لهم بالّلعب في الوحدة الوطنيّة، أو عدم مراعاة شعور الفاسدين و المفسدين الذين كما يُعلَن؛ يبغونها مستقيمة لا عوجا، و أنّ رجالاتنا الأكارم ورموزنا الشّريفة؛ لم يُعثر لهم على إسم في سجلّات وطننا الحديث بعد أن طُمست بقصد أو غير قصد، و إن عُثر على بعضها فهي موجودة في آخر الكشوفات كتذييل أو ملحق، ويمكن لها الدّخول والجلوس و (الهرج) بعد الجميع ولو كان من يسبقهم بعمر الورود أو الزّهور، وبغض النّظر أُناث كانوا أم ذكور، وأنّ أبا حنيفة الذي لم يغب عن تكبيرة الإحرام في المسجد أو الصلاة في الصّف الاول منذ أن صلّى؛ أصبح ليله نهاراً و نهاره ليل، ولا يحضر لصلاة الجماعة إلّا يوم الجمعة لا لأنّها كانت علينا من الله كتاباً موقوتا، بل لأنّها عادة وواجب و مظهر دنيوي، أو من باب العيب و الاستحياء من الناس أو كمدخلٍ في طلب (المشيخة) الدّنيويّة لا الأُخرويّة، ولو قبل قول الخطيب بثواني: (و أنت يا أخي أقم الصّلاة).
وبعد ما ذكرته سابقاً كقليلٍ من كثير مما نمرّ به؛ وبوقاحة متناهية ودحرٍ للحق؛ لا زلت أضحك على نفسي و أتساءل عن الأسباب التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه من سذاجة و بساطة، وكأنّي وغيري من المتابعين لا نعلم أنّ السّبب ينادينا فنضع على آذاننا غطاءً لكي لا نسمع، وعلى أعيننا نظّارات سوداء لكي لا نرى أو نتهم أنّنا رأينا...، ألا نعلم جميعاً أنّنا نسينا الله فأنسانا أنفسنا؟ وأنّ مترفينا يمارسون أشد أنواع الفسق فينا و فيها؟ و أن المتنفّذين و المتنفّذات يبغونها عوجا لتدوم لهم؟ وأنّ الزنا و الرّبا قد تفشّيا في قومنا وأنّ الله بشّرنا أو سيبشّرنا بعذاب أليم، فأي عذاب أشدّ مما نحن فيه الآن؟ أو لا نعلم أنّ المنكر شبه تساوى مع المعروف؟ و أنّ القوي أكل الضّعيف؟ و أنّ المواطن قد أضحى له غضبتان فقط: غضبة يوم استلام المعاش، وغضبة عند إيقاظه من النّوم؟ و أنّ له فرحتان لا غير: فرحة عند نومه، وفرحة عند موته؟ وأنّ (سوسو) ونخبته؛ أخذوا يحطموننا وهم يشعرون ويستحلمون (لا أقول يحلمون)، ومشكورة نملة سليمان أخذت تأمرنا بالاختباء لا طلباً للسّلامة؛ بل لنرتدي لباس الجبن و المهانه، ونرضى بهما بين الامم لنا كعلامه، وإفساح الأرض كمرقص أو (كباريه) أمام عطوفات الهز، وسعادات الرّقص، ودولات المُدامه، والهرب متخفّيين في أسفل قارب الخيانة،و السّفر إلى عالم الفصام النّفسي والعدامه؛ وبما أنّه قد أُعذر من أَنذر؛ فليس لنا عليه ولا عليهم ذرّة عتب أو أدنى ملامه.
ولأنّنا لا زلنا نخالف ما أيقنته أنفسنا، ومصمّمين على عدم إقتحام الحقائق و مواجهتها، وتمتّعنا ونتمتّع بتفسير الماء بالماء وإن يكن عناؤنا طويل ويطول، و لأنّنا نريد مقاتلة النّاطور لا أكل العنب، ولأنّنا نصف أذكياء بحبّنا لكثرة المجادلة وعشقنا للمهاترات، و امتهاننا جدل بيزنط وادماننا جدل الطّرشان، و بعد كل التّفسيرات و التّحليلات التي أثبتت بطلانها وعجزها عن الوصول بنا لبر الامان أو على الاقل الخروج بتصوّر ما للخروج ممّا نحن فيه من القال والقيل، و كثرة الهرج والمرج؛ أخشى أن يظهر لنا من يقول بأنّ البلد (مضروب عين)، ويحتاج لعلاج روحاني نفسي علي أحد مشايخ الرّقية فيطرد من أحشائه وعروقه كلّ ما أصابه من حسد و مسٍّ شيطانيٍّ دخلا في حالة ضعف أو لحظة من غفله!
وباختصارٍ شديدٍ موجع؛ لا أقول سوى أنّ الجميع يعلم مما يتالّم منه بلدنا ويشكو، ونتجاهل طبّه وطبيبه بفنّ يفتقر لأدنى ذوق؛ وننكر أنّه يحتاج (لطبّ عرب) على يد طبيب شعبي عشبي ليطرد ما فيه من برد قديم (مْعَقٍّد بِرْكَبُّهْ) بالشّعبيّات والعشبيّات البلديّة البعليّة البرّيّة للقضاء على الأجسام الخارجيّة و المايكروبونات العنقوديّة الدّخيله، لا بالتنويم المغناطيسي اليابانيّ و الحركات الرّوحانيّة أو وخز الأبر الصّينيّة، التي لا تتعدى سوى أنّها مسكّنات للعارض دون السّبب، و خوافي وطوامس لحقيقة النِّسَبِ المرتفعةِ جدّاً على مقياس العبوديّة لدرجات المرارة والألم.