أخبار البلد -
يبنون لك بيتاً على سحابةٍ وردية ... يدعونك إلى رحلةٍ نورانيّة بين النجوم، ويتركونك تهيم في غابة من الورود والعصافير ... هذا ما اتفقت الإذاعات ، وبعض الفضائيات المحليّة عليه، مؤامرة من طراز خاصّ، وعُرف وطقسٌ يومي نعيشه مع الفيروزيات الصباحيّة اليومية، حتى كاد يُستنزف هذا الإرث الرحباني البديع، فالتكرار، مهما كان باهراً، يدعو المتلقّي إلى الإملال بشكلٍ عام، أمّا المستمع الأردني، فحالةٌ خاصّة مختلفة تدعو للإشفاق ... لأنّ ما يبثّ له بعد حالة التحليق تلك، هي الأخبار... تلك الهدية اليومية من النكد والغمّ والبؤس، ليتبعه استعراض الصحف المحليّة التي تدور محتوياتها في الأفق المعتم نفسه، لينتهي الأمر بأن يُلقى بنا، نحن معشر المستمعين البؤساء، من الأرجوحة السماوية السّالف ذكرها إلى الدرك الأسفل دون إنذار مسبق ... ثمّ، ووسط إحساسنا بفقدان الوزن، تأتيك الفواصل التي اصطلح على تسميتها بالأغاني الوطنية ... تلك المُمعنة في إقحام نفسها داخل العلاقة الحميمة التي تربط أيّ منّا بهذا البلد ... أغنياتٌ تأمرك بشكلٍ أو بآخر بحبّ الوطن، أو تصرّ على تذكيرك ببلدك، كأنك تصحو كلّ يوم ناسياً على أيّ أرضٍ تعيش، وأيّ هواءٍ تتنفّس !
بعضها القليل جميلٌ مؤثّر، أمّا الغاليبة العظمى فمنظومةٌ عجيبة من اللحن والكلمات والأداء تفترض أنّ الحبّ يجبُ أن يكون صارخاً معلناً مدوّياً، حتى لتختلط الأمور في ذهنك، فلا تميّز إن كان المطلوب منك إعلان الحبّ، أم إعلان الغضب السّاطع ... على من بالضّبط، ولأجل ماذا بالتحديد ؟ ليس مفهوما !
نحن ، الأسوياء العقلاء، نحمل عواطف جيّاشة تجاه والدينا وأبنائنا وأصدقائنا، هل يعني هذا تقريعَ رؤوسهم بأناشيد الحبّ كلّ صباح ؟
كم أتمنّى لو كنتُ أتقنُ اللغة اليابانية لأستمع إلى ما تبثّه إذاعات طوكيومثلاً ساعة الصباح، ما الذي يستمع له المواطن هناك حتى يتّجه إلى عمله فينجزه بالإتقان والدّقة والإخلاص المعهود عنه ؟ كيف تتشرّب الشعوب الأخرى المتفوّقة موضوع الانتماء ؟ كيف يصيغون خطابهم الإعلامي في هذا الشأن ؟
يا سادة، تنحَوا عن هذه الوصاية التي تمارسونها علينا بلا داع، فالأردن في دمنا، نتنفّسه ليل نهار، الأردن طفولتنا وحاضرنا ومستقبلنا، الأردن فرحنا وقلقنا وأملنا، فنحن لا نعرف بلداً سواه، ولا نريد أن نعرف، إنه القلب الكبير الذي ضمّنا جميعاً، وإن حاول بعضهم التسلّل لغرس السّكاكين في شغافه ... إنهم القلّة التي لن تنفع معها كلّ الترهات الغنائية تلك !
أيّها السّادة، لقد آن الأوان لإعادة النظر في « حقنة « الحبّ التي تتحفوننا بها كلّ صباح ... اتركونا نحبّه كما يليق به، اتركوه في شرايينا ... فهو كبيرٌ بنا، ونحن نكبرُ كلّ يومٍ فيه، فلا تقزّمونه بما تفعلون، مع خالص الامتنان !