للحكام والمواطنين في العالم العربي الكثير من العبر في ثورة الشعب التونسي التي أرغمت الدكتاتور زين العابدين بن علي على الهرب من البلاد. ويمكن لها، وبالرغم من حالة الفوضى والانفلات الأمني التي تسود الشارع اليوم، أن تصنع مستقبلا ديمقراطيا رائعا.
أولى هذه العبر هي التذكير مجددا، وكما علمتنا الموجات العالمية المتعاقبة للتحول الديمقراطي خلال العقود الماضية، بعدم جواز استبعاد قدرة الشعوب التي ترزح تحت نير الحكم السلطوي مهما طال أمده واشتدت قبضته الأمنية، على فرض التغيير عبر ثورات أو انتفاضات شعبية تخور أمامها قوة الرصاص وسطوة الفساد.
ثانية هذه العبر هي حقيقة أن الشعوب العربية لا تشكل استثناء على هذه القاعدة الإنسانية الراسخة، وأن بمقدورها هي أيضا حين تريد ومن دون توقع من حكامها السلطويين، وكما أثبت المواطنون التونسيون منذ أن بدأت ثورتهم الشعبية في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010، فرض التغيير وتحمل كلفه العالية، إن ببذل الضحايا (فقد قتل ما يقرب من 70 تونسيا منذ أن بدأت الاحتجاجات في ولاية سيدي بوزيد، وإلى أن هرب بن علي في 14 كانون الثاني (يناير) 2011) أو تحمل مخاطر الانفلات الأمني وعنف الشارع. اليوم، أصبح الشعب التونسي مساهما أصيلا في الخبرة العالمية المعاصرة للثورات والانتفاضات الشعبية ضد الحكم السلطوي، وللمطالبة بحقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحرياتهم.
ثالثة هذه العبر هي الهشاشة الفعلية للحكم السلطوي حين يواجه شعبا يريد التغيير والضعف الشديد للحاكم السلطوي حين يكتشف في اللحظات الأخيرة (أو "يفهم" بلغة الدكتاتور بن علي) عجز آلته الأمنية وأدواته القمعية عن حمايته في ظل غياب الرضا الشعبي. يمكن للآلة الأمنية أن ترهب المواطنين طويلا وتحول بينهم وبين ممارسة حقوقهم وحرياتهم، وبينهم وبين معارضة الحاكم خوفا على أمنهم ومصالحهم، وربما تدفعهم إلى التوقف بالكامل عن الاهتمام بالشأن العام، إلا أن الآلة الأمنية هذه تعجز عن مواجهة المواطنين حين ينفضون عنهم الخوف ويخرجون إلى الشارع للمطالبة بالتغيير ولا يعيدهم لا الرصاص ولا سقوط الضحايا إلى منازلهم. والحقيقة أن الصورة الضعيفة والمتوسلة التي ظهر عليها بن علي في خطابه الأخير للمواطنين في 13 كانون الثاني (يناير) 2011 كانت أبلغ من أي كلمات أو عبارات قد تساق في هذا الصدد.
رابعة هذه العبر هي أن الحكم السلطوي، وإن نجح في تحقيق معدلات نمو اقتصادي واجتماعي مرتفعة، يظل مفتقدا لشرعية الرضا الشعبي لقمعه المواطنين وحرمانهم من حقوقهم وحرياتهم السياسية ولشيوع الفساد داخله وحوله في ظل غياب المحاسبة والشفافية. نعم حقق حكم بن علي معدلات نمو جيدة في تونس، كانت الأعلى بين البلدان العربية خارج منطقة الخليج، وبلغ معها متوسط الدخل السنوي للفرد 4000 دولار، ونجح كذلك في تحسين المؤشرات الاجتماعية الرئيسة كالحد من الأمية ونشر التعليم وضمان درجة مقبولة من المساواة بين النساء والرجال في المجتمع. إلا أن القمع والحرمان من الحقوق والحريات السياسية، والتحايل على المطالبة الشعبية بها من خلال واجهة برلمانية تعددية خالية من المضمون وكذلك فساد بن علي وأسرته والمحيطين به، وفي ترجمة عملية ومبهرة للمقولة الشهيرة "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، رتبت رفضا شعبيا واسعا للدكتاتور ظل كامنا لفترة طويلة إلى أن فجره الانتحار المأساوي للشاب محمد البوعزيزي. بل ربما أمكن القول إن معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي المرتفعة نسبيا التي شهدتها تونس خلال العقود الماضية أسهمت تدريجيا في رفع سقف توقعات المواطنين ودفعتهم تدريجيا إلى عدم الاكتفاء "بالخبز" والمطالبة بكامل حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، وفي خطوة تالية بحرياتهم السياسية.
خامسة هذه العبر هي أن الحاكم السلطوي، حين يطول أمد بقائه في منصبه وينتشر فساد المحيطين به ليتحول إلى الأصل وليس الاستثناء، يعجز عملا عن إدراك الأزمات التي يعاني منها الشعب، أو يتعامل معها إن أدركها بمنطق أمني يبرره غرور السلطة وطول البقاء في المنصب. فقد تجاهل بن علي وصول معدلات البطالة بين الشباب المتعلم إلى ما يقرب من 50%، وسوء الأوضاع الاقتصادية في الأقاليم البعيدة عن العاصمة والمدن الكبيرة، وتحول الفجوة بين الأغنياء والفقراء إلى هوة سحيقة تطال كل مناحي الحياة. ولم يفعل وزراؤه الكثير للتعامل مع هذه الأزمات. وحين بدأت احتجاجات المواطنين بعد حادثة محمد البوعزيزي صدرت الآلة الأمنية لمواجهتها، واستمر التعويل على رصاص وهراوات الأمن الرسمي وغير الرسمي على الرغم من اتساع نطاق الاحتجاجات وتحولها إلى ثورة شعبية بكل المقاييس حتى الأيام الأخيرة قبل هرب الدكتاتور. وعندما شرع بن علي في كيل وعود التنمية الاقتصادية والمجتمعية للمواطنين، ثم معاهدتهم على محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين، ثم التعهد بتحقيق التحول الديمقراطي، لم يقنع أحدا بعد الإرث الطويل لحكمه، والأهم أن صبر الشعب كان قد نفد ورغبته في التغيير استحالت من حلم مراوغ إلى أمل مشروع.
سادسة هذه العبر هي أن الشعوب حين تسعى بالفعل لفرض التغيير والإطاحة بالحكم السلطوي لا تعبر عن ذلك فقط من خلال مسيرات ومظاهرات ترفع الشعارات البراقة للديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد والانتخابات النزيهة، بل تخرج بالأساس إلى الشارع وفي لحظات غير متوقعة للمطالبة بحقوقها الاقتصادية والاجتماعية وبالحد من الفساد ومحاسبة الفاسدين. فتلك هي القضايا الحياتية التي تؤثر على جموع المواطنين مباشرة، وتدفعهم إلى المشاركة بكثافة في الحراك الشعبي الذي قد يبدأ صغيرا وفئويا، ويسبب تبنيها والدفاع عنها في التحليل الأخير المطالبة بالتغيير والديمقراطية لكون الأخيرة هي نظام الحكم الأقدر على حماية حقوق المواطنين والحد من الفساد. هذا هو ما حدث في تونس على غير توقع وصنع ثورتها الشعبية التي لم ترفع بها اليافطات البراقة ولم يحمل بمسيراتها على الأكتاف نشطاء المعارضة والمجتمع المدني الذين اكتفوا طوال العقود الماضية بالمطالبة العامة بالتغيير والديمقراطية والحكم الرشيد. وفي هذا درس بليغ للمعارضات ولمنظمات المجتمع المدني في غير تونس من البلدان العربية ولتلك المجموعات من النشطاء التي احترفت الدعوة إلى التغيير وكثيرا ما تعالت على المطلبية الاقتصادية والاجتماعية والفئوية لشعوبها الفقيرة والمحرومة.
سابعة هذه العبر، هي حقيقة أن التغيير والديمقراطية لا يحتاجان لعقود طويلة من الإصلاح المدار حكوميا كي يتحققا، وكذلك لا يستدعيان التواصل والتصاعد المستمر لضغوط قوى المعارضة والمجتمع المدني حتى يجبر الحاكم السلطوي على التغيير إن لم يرده. بل على العكس من ذلك تماما، تدلل الثورة الشعبية في تونس، وبعد عقود من وعود الإصلاح الحكومي الخالية من المضمون، على أن المواطنين إن بلغ يأسهم من قدرة الحكم السلطوي على الإصلاح والحد الفعلي من الفساد وتحركوا بعفوية للمطالبة بحقوقهم يستطيعون أن يفرضوا بعد أسابيع معدودة التغيير والديمقراطية، وبالرغم من الغياب شبه الكامل للمعارضات الحقيقية والقوية.
أما العبرة الأخيرة، فتأخذنا إلى صداقة وتحالف الحكام السلطويين في العالم العربي مع الغرب الرسمي، ورغبة حكومات الأخير في الدفاع عنهم إلى الرمق الأخير خوفا على المصالح الغربية في عالمنا، فتجدد تذكيرنا جميعا بخبرة ثورة إيران الإسلامية العام 1979 وإطاحتها بالشاه محمد رضا بهلوي. فمهما اتسع مدى الدعم الغربي للحاكم السلطوي ومهما أطبق صمت واشنطن والعواصم الغربية على قمعه وظلمه وفساده، يظل في مقدور الشعب إن تحرك للمطالبة بحقوقه ورغب في التغيير أن يحيد عامل الدعم الغربي ويطيح بالحاكم السلطوي، وحينها تكون الحكومات الغربية على رأس قائمة المتخلين عنه والمتجاهلين لاستغاثاته هو وبطانته الفاسدة.
تحية لك يا شعب تونس الكريم على كل هذه العبر، وسلام الله عليك يا محمد البوعزيزي فقد انتفضت لحقك المضام وثار مواطنوك ليخلدوا ذكراك ويطيحوا بالدكتاتور.
*مدير الأبحاث بمركز كارنيجي
للشرق الأوسط – بيروت