في البدء، لن تقوم مقاربتي هذه على مرتقيات التناول التي أنجزها الكثيرون، والتي تحدثت عن مفاصل الأوراق النقاشية الثلاث التي طرحها جلالة الملك، كما أنها لن تأتي إيجازاً أو تفسيراً لما تضمنته الأوراق الثلاث، ولكن ستقوم، بكل أسى، على أنني منذ الثلاثين من كانون الأول من العام الفائت, وهو تاريخ نشر أولى هذه الأوراق، وحتى الثالث من آذار الحالي حين جاءت الثالثة, وأنا أقلب الفكر بين يدي الاستغراب، متسائلا هل من المعقول أننا في الأردن لم نصل بعد إلى مرحلة النضج السياسي حتى الآن، فلم نسع إلى وضع هذه الطروحات موضع الدراسة الجادة التي تقود إلى مرحلة وضع الخطط التنفيذية والاستراتيجيات الجادة والموضوعية والعلمية المفضية إلى البدء العملي بالإنجاز؟
إن ما ورد في الأوراق الثلاث لا يحتاج إلى «القراءة» المعمقة فقط، ولكنه يحتاج إلى تشكيل لجان قادرة على الفعل بعد دراسة الإمكانات والرؤى، والتدقيق في العمق بدلاً من التلهي في متاهات أفلاك الألفاظ والوقوف عندها كحدود نهائية. كنت، في الحقيقة متوقعاً أن تنشغل الدولة الأردنية بكل أركانها الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في ورشات عمل تقودها مراكز القرار السياسي والجامعات والمؤسسات. وكنت منتظراً أن الاستفزاز الملكي لرجال الفكر سيقود إلى أن لا يستقر بهم يومهم ولا ليلهم ألا وهم قد جمّعوا قدراتهم، وشكّلوا خلايا ومجموعات همها الأول استعراض ما ورد في الأوراق الثلاث، والذهاب بكل جدّية نحو صياغة برامج ذات قدرة على إخراج الفكر إلى حيّز الوجود العملي.
ولعل أول ما كان علينا فعله، بعد مرور أكثر من شهرين على نشر الورقة الأولى وتلتها الثانية والثالثة، أن يُصار إلى تجميع الجهد، ورسم الأطر، ومن ثم الانطلاق في حراك عام أركانه الأفراد والجماعات والمنتديات والجهات الرسمية، وبعدها البدء في وضع التصورات وإطلاق المبادرات الناظمة لعملية التحوّل على كل المستويات.
إلا أن كل ما جرى إلى الآن هو الاكتفاء باستطلاع آراء الناس، وتحبير الصفحات بتعليقات لا تمتد إلا إلى نهايات «القراءة» العابرة, الأمر الذي حوّل العملية كلها إلى إجراءات تسطيحية تكتفي بتكرار ما ورد في الأوراق الثلاث، حتى دون الالتفات إلى عمق المشاريع والأفكار التي تضمنتها هذه الأوراق، فما بالك على مستوى التنفيذ.
ومن غير المعقول أن لا نتجاوز في مقاربتنا حدّ التسمية العامة للأفكار، وجعلها محصورة، للأسف، في مصطلح أنها «أوراق نقاشية» دون أن نعي مضامينها الداعية إلى ضرورة الوصول إلى مراحل العمل، كما عجزنا حتى عن وضعها تحت أضواء النقاش العلمي والموضوعي والعلمي.
لقد تضمنت الأوراق كماً هائلاً من الأفكار التي تحتاج الواحدة منها إلى أكثر من ورشة عمل, تستمر لفترة طويلة من الزمن, وتخرج بتوصيات واستشرافات تسوق نحو وضع آليات قادرة على التحويل والتطوير.
فعلاً لا أدري لماذا هذا التقاعس من قِبَلنا في التفاعل مع الأوراق، بعد أن فشلنا قبلها في الكثير من إنجازات الفهم المعمق لطروحات جلالة الملك، وكأن قوى الفكر والفعل عندنا قد تجمدت عند حدود المس الخارجي بالقضية الوطنية.