العرض الذي تابعناه امس في مجلس النواب يكاد يكون صورة «طبق الاصل» للعروض التي سبق وشهدناها في البرلمانات السابقة.
اذا دققنا جيدا في الصورة سنجد «حناجر» غاضبة تهدد وتتوعد، وبيانات تشجب وتستنكر وشروط معلقة وغير مفهومة، واداء فردي يعبر عن «عواطف» جياشة تدافع عن «لقمة» عيش المواطن، فيما اختفى –بالطبع- صوت الكتل التي تشكلت على عجل للدخول في «المشاورات» وغرق الجميع في «سطر» واحد عنوانه «زيادة اسعار المحروقات» وكأن القضية قد اختزلت فيه.
على الطرف الاخر كان رئيس الحكومة «وهو الخبير في سجالات البرلمان» اكثر ذكاء، فقرار رفع اسعار المحروقات –كما قال- اخذ باجماع الوزراء، مما يعني ان الجميع مسؤولون عنه وليس هو وحده، وقد كان بامكانه ان يؤجل «الرفع» لاسبوعين حتى تنتهي المشاورات لكنه اختار الكلمة الصادقة، ولو لم يفعل ذلك لقيل عنه «كلام اخر».
النواب –بالطبع- فهموا «الرسالة» لكنهم وجدوا انفسهم امام خيارات تبدو محدودة جدا، فهم من جهة لا يريدون ان يخسروا ثقة الشارع بهم من اول جولة، وهم من جهة اخرى لا يملكون بدائل اخرى تشجعهم على سحب «ورقة» ترشيحهم للرئيس في المشاورات التي اقتربت من نهايتها، فالبديل الاخر المطروح مسؤول عن «القرار»، زد على ذلك ان النواب اكتشفوا «عيانا» بأن القانون الذي افرز مجلسهم لا يسمح لهم «ببناء» تكتلات حقيقية تستطيع ان «تواجه» المقررات الحكومية، بحزم، وبلعبة ديمقراطية حقيقية تتجاوز حماسة الافراد ومصالحهم وحساباتهم المكشوفة وغير المكشوفة.
اذن، تعليق «تسمية» الرئيس القادم على قصة «رفع اسعار المحروقات» لم تعد مقنعة، واذا كانت بعض الكتل البرلمانية قد سارعت الى اعادة «التسمية» للملك –كما ينص على ذلك الدستور- فان «حيرة» الكتل الاخرى قد تدفعها الى الدخول في مفاوضات مع الدكتور النسور «لتجميد قرار الرفع» او البحث عن بدائل اخرى، او الى خيار «تعدد» الاسماء وابقاء الحسم في اختيار الرئيس للقصر، على ان تنتقل «المشاورات» الى التوافق بين الرئيس الجديد والبرلمان على اسماء الوزراء وبرنامج الحكومة وتوجهاتها وهذا قد يعني ان امامنا خيارات جديدة غير الذين تم ترشيحهم وربما يكون الرئيس القادم من خارج اطار الاسماء المتداولة.
مهما يكن، فمع نهاية الاسبوع الحالي ستطوى مرحلة المشاورات حول اختيار الرئيس، وسنحتاج الى نحو اسبوعين لاكمال تشكيل الحكومة، وبالتالي سيبدأ مارثون العمل على جبهتين: جبهة الحكومة وجبهة البرلمان، وسيكون «الشارع» حاضرا في المشهد، وسؤال «التغيير» مطروحا للفهم والحكم والتقييم.
والمهم الان، ان نفكر في مسألتين: احداهما ضرورة اطلاق مبادرة للحوار الوطني، وسواء خرجت من البرلمان او من الحكومة، فان المطلوب هو «الخروج» من حالة «المراوحة» والشك والى مرحلة تأسيسية نستطيع من خلالها فتح ملفات الاصلاح ومطالبه والتوافق حولها، اما المسألة الاخرى فتتعلق بضرورة توجيه النقاش العام داخل البرلمان والاعلام الى القضايا الكبرى التي تشكل جوهر العملية الاصلاحية فيما يفترض ان تبادر الحكومة الى تجاوز مهمة «الحوارات» الى «المقررات»وخاصة في الموضوع الاقتصادي، ذلك ان مجتمعنا اصبح يشعر بان معاناته تزداد يوميا دون ان يجد «املا» في الوصول الى معالجات تطمئنه، مما يفرض على اي حكومة قادمة ان تخرج نهائيا من «دائرة» الاعتماد على جيب المواطن الى «حلول» اخرى، لا اعتقد انها «مستحيلة» وهذا هو اهم امتحان لها وللبرلمان في المرحلة القادمة.