منذ "النهضة" في النصف الثاني من القرن 19، لم يغب الإسلام السياسي عن مسرح الأحداث في العالم العربي؛ إنما كان دائما على الهامش، مُلحقا بالأنظمة الرجعية أو أداة اعتراض وتخريب بيدها في مواجهة صعود حركة التحرر الوطني الاجتماعي، خصوصا في المرحلة الناصرية. بعد هزيمة ال67، بدأ الإسلام السياسي يكتسب شرعية ضدية، وانتشارا سياسيا كرّسته الساداتية وصعود السعودية والبترودولار، 1974، وألهمته الثورة الإيرانية، 1979، وعززه انكسار العراق القومي وسقوط الاتحاد السوفياتي، 1990، والأفول الفتحاوي في أوسلو 1994، وانتشار الفايروس الليبرالي، في التسعينات، في صفوف القوميين واليساريين المهزومين المضطرين إلى الانضواء في تحالفات تحت هيمنة الإسلاميين. وفي حقبة جورج بوش الابن ( 2000 ـ 2008) حصل الإسلاميون ـ بكل أطيافهم ـ على موقع القيادة الحاسم في مواجهة قاسية مع واشنطن انتهت بمصالحة كبرى، انطلاقا من تحوّل المقاومة السنية في العراق إلى موقع التعاون، وتسارع التفاهمات الاستراتيجية بين واشنطن والإخوان المسلمين بوصفهم الوكيل المعتدل للإسلام السياسي، السلفي والسلفي الجهادي.
كل تلك المسيرة الصاعدة تتوجت فيما يسمى الربيع العربي 2011؛ كان الإسلاميون مهيأين لحصد النتائج، خصوصا وأنهم تبنوا، لاستكمال نسيج الهيمنة الفكرية السياسية، الخطاب الليبرالي وشرعية صناديق الاقتراع.
ولكن ما يحتاج إلى التفسير، في حالتي تونس ومصر حيث نجح " الإخوان" بالوسائل الانتخابية، هو السبب الكامن وراء تعجّلهم الكشف عن أنيابهم الدكتاتورية. ويمكننا القول، هنا، إنهم اكتشفوا، سريعا، أن الصراعات الاجتماعية الملتهبة التي كانت محرك الانتفاضات الشعبية العربية، لا يمكن كبحها، واستعادة الاستقرار في ظل السيطرة الامبريالية، بوسائل "ديموقراطية".
أبهذه السرعة النفّاثة يتحرك التاريخ في العالم العربي الجديد، فينحدر بطل المرحلة، الإسلام السياسي، من ذروة الهيمنة على الإجماع الوطني، إلى حضيض سلطويةٍ مهزوزة ومعزولة؟ كان ذلك الانحدار متوقعا من قبل منظرين ماركسيين أبرزهم المصري سمير أمين، بالنظر إلى افتقار الإسلاميين إلى إجابة تقدمية على أسئلة التنمية وبناء الاقتصاد العادل والديموقراطية الاجتماعية. وهو ما فجّر الصراع في تونس بين الحزب الإسلامي الحاكم "النهضة" والاتحاد التونسي للشغل. لكن المفاجأة المصرية، كمنت في تجاوز المستوى الاجتماعي للاعتراض الشعبي المتوقع على السياسات الاقتصادية الإخوانية، نحو صراع تاريخي بين إجماع مدني علماني " تقوده جبهة الانقاذ الوطني" مع إسلام سياسي بلا حلفاء من خارجه؛ بذلك، يكون الأخير قد فقد هيمنته ـ وليس، بالضرورة، سيطرته السلطوية العارية أخلاقيا والمؤقتة سياسيا، ـ وخسر مشروعه.
وجوهر هذا " المشروع" الانتحاري هو تحويل جسم الأمة السنّي ـ ومركزه مصر ـ إلى "طائفة" مغلقة، يهيمن التحالف الإخواني السلفيّ عليها، وتقودها دول خليجية ، وتستخدمها لبناء دكتاتوريات تحظى بدعم النظام الامبريالي مقابل تأمين استمرار سيطرته في البلدان العربية ، في ثلاثة مجالات رئيسية: الكمبرادورية (نظام اقتصادي يديره الوكلاء التابعون للرأسمال العالمي، ومنه فرعه الخليجي) والإبقاء على خضوع منظومة النفط والغاز العربية للمصالح الغربية، وتوفير الدعم الشعبي للسلام الواقعي مع إسرائيل. ومن ثم، يكون الإسلاميون أحرارا بتشكيل المجال الثقافي ـ السياسي الداخلي اللازم لتطييف الأكثرية، ووضعها في حالة صراع دائم مع المكونات الطائفية والمذهبية العربية الأخرى، المسيحية والشيعية والعلوية الخ
غير أن حجم الكتلة السنية العربية، وتكوينها التاريخي الأغلبي وتراثها القومي، من جهة، وامتدادها الجغراسياسي وتعددها على المستويين الوطني والاجتماعي، من جهة أخرى، يجعل من غير الممكن تطييفها "حالة لبنان خاصة، محلية وهامشية"؛ هكذا انشقت "الطائفة" المستحيلة إلى معسكرين سيحددان الصراع في المرحلة المقبلة، معسكر الإسلام السياسي ومعسكر العلمانية .