مخاطر التدخل في سورية تخل بالنظام العالمي
- الأحد-2012-06-10 | 09:17 am
أخبار البلد -
اخبار البلد_ حين يكتب هنري
كيسنجر في الثاني من حزيران الجاري مقالاً في الواشنطن بوست يتحدث فيه عن
مخاطر التدخل في سورية، فإنه حتماً لا يمارس تمريناً في التعقل، خاصةً بعد
التصريحات التي نسبت إليه وعبّر فيها عن قناعته بعدم إمكانية إسقاط النظام
السوري إلا باستخدام السلاح النووي، وهو تالياً لا يمارس تمريناً في العبث،
وإنما في الهداية والإرشاد: التمهيد لتغيرٍ ما في السياسة الخارجية
الأميركية تجاه سورية، ليس أقله إدارة الانسحاب من الملف السوري بعد العجز
عن تحقيق الأهداف الأميركية المعروفة. فيما يلي ترجمة أمينة، دون زيادة أو
نقصان، لنص المقال:
يجري عموماً مناقشة ظاهرة «الربيع العربي» من زاوية علاقتها باحتمالات
تحقيق الديمقراطية. إلا أن ما يعادل هذه الظاهرة أهمية ودلالة هو تلك
الدعوات المتزايدة لاستقدام التدخل الخارجي في شؤون دول معينة- آخرها في
سوريةـ بهدف إحداث تغيير في النظام، وقلب الأفكار التي يرتكز عليها النظام
العالمي. قد يفيد -أولاً- أن نتذكر في هذا السياق أن المفهوم الحديث للنظام
الدولي كان قد انبثق عن معاهدة سلام (ويستفاليا)، الموقعة عام 1648، والتي
أنهت ممالك أوروبا المتصارعة حرباً عُرفتْ فيما بعد بحرب الثلاثين عاماً.
في تلك الحقبة من الصراع، كانت السلالات الحاكمة في أوروبا ترسل جيوشها عبر
الحدود لفرض المعتقدات الدينية المختلفة عنوةً، وفي تلك النسخة من مشروع
«تغيير النظام» المنتمية للقرن السابع عشر، قُتل أكثر من ثلث سكان أوروبا
الوسطى. وللحيلولة دون تكرار مذابح مماثلة، قامت «معاهدة ويستفاليا» بفصل
السياسة الداخلية لكل بلد عن سياسته الدولية، أي تلك المرتبطة بكيفية
إدارته لعلاقاته مع الدول الأخرى. وقد اعتبرت الدول التي بُنيت على
الوحدتين الثقافية والوطنية، دولاً ذات سيادة داخل حدودها الوطنية. أما
السياسة الدولية، فقد تم قصرها على التفاعل العابر للحدود الوطنية القائمة.
مؤسسو تلك الدول أرادوا من المفاهيم الجديدة للمصلحة الوطنية وميزان القوى
أن تكون أداةً للحد من، وليس التوسع في، الدور الذي كانت تلعبه القوة
المجردة، حيث عملت تلك المفاهيم على استبدال عملية القيام بتحويل عقائد
الشعوب المختلفة بالقوة، إلى المحافظة على التوازن القائم بين الدول
المعنية. وقد شاع النمط «الويستفالي» من الأنظمة في العالم كله عبر
الدبلوماسية الأوروبية. ورغم تعرضه للاهتزاز بسبب الحربين العالمية الأولى
والثانية، وانتشار الشيوعية، فإن نظام الدولة/ الأمة استطاع الاستمرار
بصعوبة، بوصفه المكون الرئيس الذي يتشكل منه النظام العالمي. لم يطُبق
النظام «الويستفالي» بصورة كاملة على الشرق الأوسط. فقط ثلاث دول إسلامية
في المنطقة هي تركيا، إيران ومصر، استندت حدودها على أسس تاريخية راسخة.
أما حدود باقي دول المنطقة فقد كانت انعكاساً للطريقة التي تم بها توزيع
مغانم الإمبراطورية العثمانية البائدة، قبل أن تتعرض تلك الحدود للتغيير
فيما بعد، وهو ما كان يتم غالباً من خلال القوة العسكرية.
والدبلوماسية التي أفرزها «الربيع العربي»، تستبدل المبادئ «الويستفالية»
القائمة على حفظ التوازنات بعقيدة معممة للتدخل الإنساني. وفي هذا السياق
يتم النظر- من المجتمع الدولي- إلى النزاعات الأهلية عبر منظورين:
ديمقراطي وطائفي. وبموجب هذا النظام تطالب القوى الخارجية الحكومات القائمة
بالتفاوض مع خصومها بغرض نقل السلطة، لكن، ونتيجةً لأن هدف كل طرف، بشكل
عام، هو البقاء، فإن ما يحصل عملياً هو أن هذه الدعوة من جانب القوى
الأجنبية لا تلقى آذاناً مصغية من جانب النظام الحاكم الذي غالباً ما يكون
ميزان القوة في مصلحته. أما عندما تكون قوة الطرفين متقاربة، فإن درجة ما
من التدخل الدولي، وبضمن ذلك التدخل باستخدام القوة المسلحة، يتم الاستعانة
بها في هذه الحالة لكسر حالة الجمود أو الخروج من المأزق. وهذا النمط من
سياسة التدخل الإنساني يميز نفسه عادة عن نمط السياسة الخارجية التقليدية
عن طريق تجنب الدعاوى المتعلقة بميزان القوى والمصلحة الوطنية- نظراً
لافتقار تلك الدعاوى للبعد الأخلاقي. كما يميّز نفسه أيضاً ليس من خلال
تجاوز التهديد الاستراتيجي، وإنما من خلال إزالة الظروف التي تعتبر
انتهاكاً للمبادئ العالمية لكيفية إدارة الحكم.
وإذا ما تمّ تبني هذا الشكل من التدخل كركيزة من ركائز السياسة الخارجية،
فإن أسئلة عديدة عن الاستراتيجية الأميركية ستطرح على نطاق أوسع، ومنها: هل
تعتبر أميركا نفسها ملزمةً بدعم كل انتفاضة شعبية ضد أي حكومة غير
ديمقراطية، بما في ذلك تلك الحكومات التي تُعتبر حتى الآن مهمةً في الحفاظ
على النظام الدولي؟ على سبيل المثال؛ هل تبقى العربية السعودية حليفاً فقط
إلى حين انطلاق التظاهرات العامة على أراضيها؟ هل نحن مستعدون لإعطاء كامل
الحق للدول الأخرى في التدخل في أي مكان نيابة عن أخ في الدين أو الدم؟ قد
تسيطر مساحات فارغة على الخريطة لتدل على انعدام القانون، كما حدث بالفعل
في اليمن والصومال وشمال مالي وليبيا وشمال غرب باكستان، وما يمكن أن يحدث
أيضاً في سورية. ويكمن السبب في أن انهيار الدولة يمكن أن يحوّل أراضيها
إلى قاعدة للإرهاب أو توريد السلاح ضد الجيران الذين لن تتوافر لديهم أي
وسيلة للتصدي لهم، في ظل غياب أي سلطة مركزية.
والحال أن الضرورات الاستراتيجية التقليدية لم تختفِ. إذ إن تغيير النظام،
بحكم تعريفه تقريباً، يولّد ضرورة حتمية لبناء الدولة. وإذا تعذر ذلك، فإن
النظام الدولي نفسه يبدأ في التفكك. في سورية، تختلط دعوات التدخل لأسباب
إنسانية بتلك التي دوافعها استراتيجية. في قلب العالم الإسلامي، ساعدت
سورية، بقيادة الرئيس بشار الأسد، استراتيجية إيران في المشرق العربي
والبحر المتوسط، كما دعمت حركة «حماس» الإرهابية التي ترفض قيام دولة
إسرائيل، ودعمت كذلك «حزب اللـه». إن للولايات المتحدة أسباباً استراتيجية
تدعوها لتفضيل سقوط النظام في سورية، وتشجيع الدبلوماسية الدولية على تحقيق
هذا الهدف. ولكن ليس كل مصلحة إستراتيجية تصلح لأن تكون سبباً كافياً
للذهاب إلى الحرب، وإلا فلن يكون هناك مجال للدبلوماسية عندها.
ومع دخول القوة العسكرية في الحسبان بالنسبة لسورية، فإن عدداً من المسائل
لا بد من التعامل معها: فعلى حين تسرّع الولايات المتحدة الانسحاب من
التدخلات الاستراتيجية في أفغانستان، وقبلها في العراق المجاور لسورية، كيف
للولايات المتحدة أن تبرر التزاماً عسكرياً جديداً في المنطقة ذاتها، خاصة
عند مواجهة مشكلات مماثلة؟ وهل من شأن هذه المقاربة الجديدة، المنطلقة من
دوافع أخلاقية ودبلوماسية أكثر منها عسكرية وإستراتيجية، أن تحل المعضلات
التي عانت منها سابقاً الجهود في العراق أو أفغانستان، والتي انتهت بانسحاب
أميركا وانقسامها؟ أم إنه سيفاقم المصاعب بالمراهنة على هيبة الولايات
المتحدة وروحها المعنوية فيما يتعلق بالنتائج المحلية، التي لأميركا وسائل،
وقوة أقل على تشكيلها؟ ومن الذي سيحل محل السلطة القديمة بعد الإطاحة بها؟
وما الذي نعرفه عن السلطة الجديدة؟ وهل سيكون الوضع الجديد كفيلاً بإنهاء
الأزمة الإنسانية التي تدخلنا عسكرياً من أجل إنهائها؟ أم إننا نريد تكرار
تجربة طالبان الأفغانية التي سلحتها أميركا لمحاربة الاتحاد السوفييتي،
وشكلت بعدها تحدياً أمنياً لواشنطن؟
والتدخل العسكري، سواء الذي يتم لأسباب إنسانية أو لأسباب استراتيجية،
يتطلب توافر شرطين أساسيين مسبقين؛ الأول: إجماع على أسلوب الحكم الجديد
بعد الإطاحة بالنظام القائم- وهي مسألة حيوية للغاية. فإذا كان الغرض هو
إسقاط نظام حكم معين، فإنه من الممكن جداً أن يترتب على ذلك، حالة من فراغ
القوة يمكن أن تؤدي إلى حرب أهلية نتيجة لسعي الجماعات المسلحة لملء
الفراغ والوصول إلى السلطة. وفي هذه الحالة تقوم القوى الأجنبية بتأييد طرف
معين على حساب الطرف أو الأطراف الأخرى المتنافسة معه. أما الشرط الثاني
فهو: أن يكون غرض التدخل موضوعياً، قابلاً للإنجاز خلال مدى زمني قادر على
الاستمرار محلياً.
وأنا شخصياً/ والكلام دائماً لكيسنجر/، أشك في أن المسألة السورية قادرة
على اجتياز هذه الاختبارات. فحين نستجيب لكارثة إنسانية ما، يتعين علينا أن
نكون حريصين على ألا نتسبب بتصرفاتنا في خلق أو تسهيل نشوء كارثة أخرى.
وهكذا فإنه في غياب مفهوم استراتيجي محدد بدقة، فإن النظام العالمي الذي
يذيب الحدود، ويمزج الحروب الدولية والأهلية معاً، لن يكون قادراً أبداً
على التقاط أنفاسه. ثمة دوماً حاجة لما يمكن أن نسميه (القدرة على التمييز
بين الفروق الدقيقة للأفكار والمفاهيم المختلفة)، لأن تلك القدرة سوف تكون
مطلوبة لإعطاء منظور يتم من خلاله إعلان الأساس الذي يتم التدخل بناءً
عليه.
وزير الخارجية الأميركية بين عامي 1973- 1977.
المصدر: (Washington Post).