في زمن تتسارع فيه نبضات التكنولوجيا كما تتسارع دقات القلب تحت وقع المفاجآت، يطل الذكاء الاصطناعي كأحد أهم التحولات التي تشهدها البشرية في القرن الحادي والعشرين. غير أنّ خصوصية المشهد العربي تضفي على هذه القصة طابعاً مميزا، إذ تتباين فيه الطموحات ما بين المبادرات الحكومية الضخمة والشركات الناشئة التي تولد من رحم الأفكار لتكبر بسرعة مذهلة. وفي قلب هذا الزخم تبرز شركات عربية استطاعت أن تضع بصمتها في سجل الذكاء الاصطناعي، بعضها انطلق من عاصمة عربية صغيرة ليجد نفسه لاعباً عالمياً، وبعضها نما في بيئة محلية ليصبح شريكاً في رسم ملامح المستقبل.
لنبدأ من الإمارات حيث تتربع "شركة G42" التي تأسست في أبوظبي عام 2018 كأكبر كيان عربي يكرّس موارده لبناء منظومات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية. الشركة التي تضم اليوم أكثر من خمسة وعشرين ألف موظف تحولت إلى بيت خبرة يمتد عمله من تحليل البيانات الطبية وحتى مشاريع الفضاء، وهي دليل على أن الدولة التي آمنت بالتحول الرقمي تستطيع أن تجعل من الاستثمار في الذكاء الاصطناعي استراتيجية وطنية لا مجرد تجربة. ومن تونس جاءت قصة أخرى أكثر إلهاما، هي قصة "شركة InstaDeep" التي انطلقت عام 2014 على يد شابين، ولم تمض سنوات قليلة حتى أصبحت تحت أنظار الشركات العالمية الكبرى. حين أعلنت شركة BioNTech الألمانية عام 2023 استحواذها على InstaDeep بقيمة ستمئة وستة وثلاثين مليون يورو، لم يكن ذلك مجرد صفقة تجارية، بل شهادة على أن العقل العربي قادر على اختراع أنظمة إنذار مبكر ترصد تحورات الفيروسات وتلفت أنظار منظمة الصحة العالمية. كما أيضاً برزت في الإمارات شركة "ترجمة"، التي طورت منصات وخدمات تعتمد على الذكاء الاصطناعي في الترجمة الآلية وتحويل النصوص العربية إلى لغات متعددة بدقة متزايدة، وهو ما يخدم قطاع التعليم والإعلام ويوسّع من حضور المحتوى العربي عالميا.
في السعودية، المشهد أكثر اتساعا، فهناك 'شركة Lucidya" التي تأسست عام 2016 لتكون أول شركة ناشئة في المملكة تحصل على دعم رأس المال المخاطر في مجال الذكاء الاصطناعي. عملت على تطوير منصات لفهم بيانات العملاء وتحليل سلوكهم، وجمعت ستة ملايين دولار في جولة استثمارية عام 2022. بجانبها تبرز "Mozn" التي تأسست عام 2017 وركزت على أدوات تحليل البيانات واكتشاف الاحتيال في القطاع المالي، وأطلقت منصة FOCAL التي أصبحت مستخدمة من قبل بنوك وجهات حكومية، وجمعت أكثر من عشرة ملايين دولار من الاستثمارات. هذه القصص تؤكد أن السوق السعودي أصبح مهيأً لولادة شركات تكنولوجية تنافس عالمياً.
ومن القاهرة جاء اسم "CEQUENS' الذي بدأ من حلول الاتصالات لينمو إلى مؤسسة توظف أكثر من ألفي موظف وتقدم منصات مدعومة بالذكاء الاصطناعي مثل OmniLink وAI Agent. لقد تحولت الشركة إلى حلقة وصل بين المؤسسات والمستهلكين، وربطت نفسها بشراكات مع كيانات كبرى مثل ماستركارد وأمازون. في المشهد ذاته تبرز "Synapse Analytics"، وهي شركة ناشئة ركزت على الذكاء الاصطناعي للمؤسسات المالية، وحصلت على تمويل بمليوني دولار عام 2024 للتوسع في الخليج وأفريقيا. بينما تعمل "DXwand" على تطوير روبوتات محادثة ذكية باللغة العربية، وجمعت أربعة ملايين دولار لدفع عجلة نموها. كل ذلك يجري في مصر التي تمتلك طاقات بشرية شابة تجعلها قادرة على أن تكون مركزاً إقليمياً لصناعة الذكاء الاصطناعي.
من شمال أفريقيا، أيضاً، صعد نجم شركة "Yassir" الجزائرية التي انطلقت كتطبيق خدمات للتنقل والتوصيل والدفع الذكي مستخدمة تقنيات الذكاء الاصطناعي في إدارة المسارات وفهم سلوك المستهلكين. استطاعت الشركة أن تجذب استثماراً بقيمة مئة وخمسين مليون دولار عام 2022، وتوسعت إلى أكثر من خمس وأربعين مدينة مع أكثر من ثمانية ملايين مستخدم. هذه الأرقام تعكس كيف يمكن لشركة ناشئة في الجزائر أن تنافس كبريات التطبيقات العالمية في مجال النقل والخدمات اللوجستية. في الإمارات أيضا، نجد "Ogram" التي توظف الذكاء الاصطناعي لربط المستقلين بالشركات وتحسين التوافق بين المهارات والفرص، ما يعكس تحول سوق العمل العربي إلى فضاء مدعوم بالخوارزميات. أما قطر فقد دخلت السباق من بوابة البحوث الأكاديمية عبر معهد قطر لبحوث الحوسبة، الذي أطلق منصة "Fanar" متعددة الوسائط. هذه المنصة العربية الفريدة تقدم نماذج لغوية عملاقة مثل Fanar Star بسبعة مليارات معامل وFanar Prime بتسعة مليارات، قادرة على فهم النصوص والصور والأصوات، وهو ما يجعلها من أبرز المشاريع الأكاديمية العربية في هذا المجال.
ورغم قتامة المشهد في فلسطين بفعل الاحتلال والقيود الاقتصادية والسياسية، فإن هناك محاولات جادة لفتح نافذة صغيرة على عالم الذكاء الاصطناعي. الجامعات الفلسطينية بدأت تدخل تخصصات مرتبطة بالذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات، كشركة "أقلمة" التي باتت مزوداً شريكاً لكبريات شركات العالم لتزويدها بالبيانات المختصة Datasets لتدريب نماذج تقنيات الذكاء الاصطناعي مع الإلتزام الأخلاقي وعدم التحيز أو التمييز ورأينا مبادرات بحثية يقودها طلبة وباحثون رغم شُحّ الإمكانات وانقطاع الكهرباء وصعوبة الوصول إلى بنى تحتية تكنولوجية متقدمة. بعض الشركات الناشئة الصغيرة تحاول تطوير حلول في مجالات مثل التعلم الإلكتروني والتطبيب عن بُعد باستخدام خوارزميات بسيطة، ليس بهدف المنافسة العالمية، بل لمواجهة تحديات حياتية يومية في بيئة محاصرة. ورغم أن هذه المشاريع ما تزال محدودة، فإنها تحمل رمزية عالية: فالإبداع يمكن أن يولد حتى في ظروف الحصار، والذكاء الاصطناعي في فلسطين قد لا يكون اليوم قوة اقتصادية، لكنه فعل مقاومة معرفية وإصرار على أن الفلسطينيين لن يُستبعدوا من ثورة التكنولوجيا التي تعيد تشكيل العالم.
هذه الأمثلة ليست مجرد سرد لأسماء شركات، بل هي علامات فارقة ترسم صورة مستقبل عربي مختلف. فالتقارير تشير إلى أن الإنفاق على الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط بلغ ثلاثة مليارات دولار عام 2023، ومن المتوقع أن يتجاوز ستة مليارات وأربعمئة مليون دولار بحلول 2026. أما على المدى الأبعد، فالتقديرات تضع مساهمة الذكاء الاصطناعي في اقتصادات السعودية ومصر وبقية دول الخليج عند نحو ثلاثمئة وعشرين مليار دولار بحلول 2030. هذه الأرقام ليست تنبؤات مجردة، بل إشارات على أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي لم يعد خياراً هامشياً بل رهاناً استراتيجياً يشكل قاعدة للنمو الاقتصادي.
ولعل أجمل ما يميز هذه القصة أن معظم الشركات المذكورة وُلدت من بيئات لم تكن قبل سنوات قادرة على استيعاب مصطلحات مثل التعلم الآلي أو معالجة اللغة الطبيعية. لكنها اليوم تنتج برمجيات ومشاريع تُستخدم في وزارات الصحة والبنوك وشركات النقل. في كل قصة من هذه القصص نرى مزيجاً من الجرأة والابتكار والإيمان بقدرة الشباب العربي على أن يكونوا جزءاً من هذا التحول العالمي. واللافت أن بعضها بدأ من مكتب صغير بأقل الموارد، لكنه أثبت أن الحلم إذا صيغ بلغة الذكاء الاصطناعي يمكن أن يصبح واقعاً عالمياً.
إن ما يميز الذكاء الاصطناعي في العالم العربي أنه لم يعد حكراً على النخب أو المبادرات الحكومية الكبرى، بل أصبح ميداناً للشركات الناشئة والمبتكرين والأكاديميين. وكلما تراكمت هذه التجارب، تشكلت منظومة كاملة قادرة على إنتاج معرفة وتصدير حلول لا تقل جودة عن تلك القادمة من وادي السيليكون أو شنغهاي. إننا أمام مرحلة جديدة من التاريخ العربي، مرحلة تتجاوز حدود الاستهلاك إلى صناعة المستقبل، وفيها لا يظل الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية، بل يصبح ثقافة وفلسفة ونمط حياة. وربما يكون هذا هو الدرس الأعمق: أن المستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع، وأن الذكاء الاصطناعي في العالم العربي لم يعد حلماً بعيد المنال، بل أصبح واقعاً يولد كل يوم من بين الشاشات والبيانات والعقول المتوهجة.
