في ثلاثينيات القرن الماضي، وأمام الانهيار الاقتصادي العالمي المعروف بـ”الكساد الكبير”، خرج الاقتصادي البريطاني الشهير جون مينارد كينز بنظرية جريئة اختصرت لاحقًا بمقولته الرمزية:
"إن أردت نهضة اقتصادية اليوم، فاحفر بئرًا واطمره غدًا”.
كان كينز لا يقصد العبث، بل كان يُنظّر لما يعرف اليوم بـ”الإنفاق التحفيزي الحكومي”، وهو ضخ المال في السوق، حتى في أعمال غير إنتاجية بظاهرها، لتشغيل اليد العاملة، وتحريك عجلة الاقتصاد، وكسر الجمود القاتل الذي يُدخل الدولة في نفق الركود والبطالة.
اليوم، وبعد قرن تقريبًا، يعيش الأردن أزمة اقتصادية خانقة تتشابك فيها المديونية مع ارتفاع فاتورة الرواتب، وتتراجع فيها مخصصات الإنفاق الرأسمالي في المشاريع التنموية، وتتعمق آثارها في المحافظات والمناطق النائية، البعيدة عن مركز العاصمة.
وفي ظل كل ذلك، تغيب نقابة المقاولين – بكل ما تمثله من عمق مهني ودور اقتصادي – عن ورشات الإصلاح الاقتصادي، التي أعلنت عنها الحكومة تحت مظلة تحديث القطاع العام والإصلاح السياسي.
فهل يُعقل أن يتم تغييب قطاع الإنشاءات عن النقاش الوطني، وهو القطاع الذي يشغّل مئات الحرف والمهن المرتبطة به؟!
هل يُعقل أن نتحدث عن التشغيل والنمو دون النظر إلى القطاع الذي يُحرّك تجارة الحديد والإسمنت، والنقل، والكهرباء، والنجارة، والدهانات، والميكانيك، ومواد البناء، والمكاتب الهندسية؟!
نعم، نحن بحاجة أن "نحفر البئر”، لا لنطمره، بل لنبني عليه مستقبلًا اقتصاديًا، وهذا لا يتم إلا من خلال زيادة الإنفاق الحكومي على مشاريع البنية التحتية، لا سيما في المناطق التنموية والمناطق النائية، فكل مشروع إنشائي هناك يشغّل أبناء المنطقة، ويخلق بيئة حيوية للاستثمار والتجارة، ويمنح الشباب أملًا وفرصًا حقيقية، بدلًا من التمركز القاتل في عمّان.
إن الإنفاق على البنية التحتية ليس ترفًا، ولا هدرًا، بل هو الوسيلة الوحيدة لحماية السوق من الركود، وهو ما تنبّه له كينز مبكرًا.
وغياب الإنفاق يعني استمرار الركود الاقتصادي، وانكماش سوق العمل، وتفاقم الأزمات الاجتماعية.
كما أن تغييب نقابة المقاولين عن الحوار هو تغييب لصوت مهم في الاقتصاد الوطني.
كان الأولى بالحكومة أن تدعوها إلى طاولة الإصلاح، لا أن تكتفي بحلقات مغلقة تكرر خطابها دون التوقف عند مكامن التحفيز الحقيقي.
نأمل أن تُراجع الدولة أولوياتها، وتفهم أن البناء ليس حجرًا على حجر، بل بناء ثقة، وكرامة، واستقرار
