في تطور أثار قلق المستثمرين حول العالم، يشهد سوق السندات اليابانية موجة ارتفاع حادة في العوائد، ما يهدد بإعادة رسم خريطة تدفقات رؤوس الأموال العالمية، وسط تحذيرات من "زلزال مالي" قد يضرب الأسواق الأميركية.
فقد ارتفعت عوائد السندات الحكومية اليابانية لأجل 40 عاماً إلى مستويات قياسية بلغت 3.689% الأسبوع الماضي، قبل أن تتراجع قليلاً إلى 3.318%، لكنها لا تزال أعلى بنحو 70 نقطة أساس منذ بداية العام. كما ارتفعت عوائد السندات لأجل 30 عاماً إلى 2.914%، ولأجل 20 عاماً بأكثر من 50 نقطة أساس.
استأنفت العوائد ارتفاعها يوم الأربعاء، حيث أفادت "رويترز" بانخفاض الطلب على السندات الحكومية لأجل 40 عاماً إلى أدنى مستوى له منذ يوليو من العام الماضي، مُقتربةً من أعلى مستوياتها القياسية التي سُجلت الأسبوع الماضي.
الغاز الروسيعاجل:مستشار ألمانيا: سنبذل كل ما في وسعنا لمنع إعادة تشغيل خط غاز نورد ستريم
هذا الارتفاع الحاد في العوائد قد يدفع المستثمرين اليابانيين إلى إعادة أموالهم من الولايات المتحدة إلى الداخل، بحسب محللي "ماكواري"، الذين حذروا من "نقطة تحوّل" قد تؤدي إلى موجة إعادة تموضع عالمية.
وحذر كبير الاستراتيجيين في "سوسيتيه جنرال"، ألبرت إدواردز، من أن استمرار هذا الاتجاه قد يؤدي إلى "أرماجدون مالي عالمي"، مشيراً إلى أن ارتفاع العوائد وقوة الين سيقللان من شهية المستثمرين اليابانيين للاستثمار في الخارج، لا سيما في الأسهم الأميركية، التي جذبت تدفقات ضخمة من اليابان خلال السنوات الماضية.
القلق لا يقتصر على السندات فقط، بل يمتد إلى ما يُعرف بـ"تجارة الحمل" أو (Carry Trade)، وهي استراتيجية تعتمد على الاقتراض بالين منخفض الفائدة للاستثمار في أصول ذات عوائد أعلى في الخارج. ومع ارتفاع العوائد في اليابان، بدأت هذه التجارة تتعرض لضغوط كبيرة.
ونوه، إدواردز، إلى أن الاستثمار في الولايات المتحدة كان بمثابة تجارة في العملة، أكثر منها سعياً وراء عوائد أعلى من أسعار الفائدة. وأشار تحديداً إلى أسهم التكنولوجيا الأميركية، التي شهدت تدفقات يابانية كبيرة، باعتبارها أكثر تأثراً بقوة الين.
بدوره، قال مدير المحافظ في "تايدال فاينانشال غروب"، مايكل غايد، إن الأسواق قد تشهد تكراراً لما حدث في أغسطس الماضي، حين أدت تحركات بنك اليابان إلى ارتفاع الين وانهيار مفاجئ في الأسواق العالمية.
وقال الخبير الاستراتيجي في شركة كوانتوم ستراتيجي، ديفيد روش، إن ارتفاع العوائد ينذر بمشاكل للأسواق العالمية بشكل عام، إذ يترجم إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض. وكون اليابان ثاني أكبر دائن في العالم، فإن ذلك يزيد من المخاطر.
بلغ صافي الأصول الخارجية للبلاد أعلى مستوى له على الإطلاق في عام 2024 عند 533.05 تريليون ين (3.7 تريليون دولار).
وقال روش: "إن شح السيولة العالمية سيُقلل النمو العالمي إلى 1%، وبرفع أسعار الفائدة طويلة الأجل، سيؤدي ذلك إلى تشديد الأوضاع المالية وإطالة أمد سوق الهبوط في معظم الأصول". وأضاف روش أن إعادة الأموال إلى اليابان تُعتبر مرادفة لـ"نهاية الاستثنائية الأميركية"، وتنعكس في أماكن أخرى في أوروبا والصين.
يُعزى انحدار منحنى العائد في اليابان إلى حد كبير إلى عامل هيكلي رئيسي: فقد استوفت شركات التأمين على الحياة اليابانية - وهي مصدر رئيسي للطلب على سندات الحكومة اليابانية لأجل 30 و40 عاماً - إلى حد كبير متطلبات الشراء التي تفرضها اللوائح، وفقاً لما ذكره رونغ رين جوه، مدير محفظة إيست سبرينغ للاستثمارات في فريق الدخل الثابت.
مع تقليص بنك اليابان لمشتريات السندات في تحول جوهري في السياسة النقدية العام الماضي، وعدم تكثيف الجهات الفاعلة الخاصة، من المرجح أن يُؤدي عدم التوافق بين العرض والطلب إلى ارتفاع العوائد.
وقال إدواردز: "إذا أغرت عوائد سندات الحكومة اليابانية المرتفعة بشكل حاد المستثمرين اليابانيين بالعودة إلى ديارهم، فإن تفكيك تجارة الفائدة قد يُسبب انخفاضاً حاداً في الأصول المالية الأميركية". تميل العوائد المرتفعة إلى تقوية العملة.
تتضمن تجارة الفائدة الاقتراض في العملات منخفضة الفائدة مثل الين الياباني، واستخدام هذه الأموال للاستثمار في أصول خارجية ذات عوائد أعلى.
في أغسطس الماضي، بدأت التداولات القائمة على الين بالتراجع بشكل حاد بعد أن رفع بنك اليابان أسعار الفائدة، مما عزز العملة اليابانية وأثار موجة بيع واسعة في الأسواق العالمية.
وبحسب مايكل جايد، مؤلف تقرير "التقدم والتأخر" ومدير محفظة في مجموعة تايدال المالية، تبدو اليابان كقنبلة موقوتة، وقال: "إذا انهارت الثقة في أحد الأصول الآمنة تقليدياً في السوق المالية، فقد تتراجع الثقة في السوق العالمية معها"، مضيفاً أن الناس يفترضون أن ما حدث في أغسطس كان حدثاً "مؤقتاً".
وأضاف جايد أن أحد الأهداف الرئيسية للإدارة الأميركية الحالية هو خفض عوائد السندات وإضعاف الدولار لمعالجة اختلالات التجارة العالمية، وإذا حدث ذلك في الوقت نفسه الذي ترتفع فيه عوائد السندات اليابانية، فسيضر ذلك بفكرة انخفاض قيمة الين التي تُغذي تجارة الفائدة على الين في المقام الأول.
ورغم هذه التحذيرات، يرى بعض المحللين أن التأثير قد يكون تدريجياً وليس كارثياً. فالفجوة بين العوائد الأميركية واليابانية تقلصت من 450 إلى 320 نقطة أساس، ما يقلل من جاذبية بيع الين.
ويؤكد كبير استراتيجيي الدخل الثابت في "ستيت ستريت"، ماساهيكو لو، أن التحالف الاستراتيجي بين طوكيو وواشنطن يجعل من غير المرجح أن تتخلى اليابان عن حيازاتها من السندات الأميركية، مشيراً إلى أن معظم الاستثمارات اليابانية في الولايات المتحدة تتركز في الأسهم وليس في أدوات الدين.
في ظل هذه التطورات، تبقى الأسواق في حالة ترقب، وسط مخاوف من أن يؤدي تشديد السيولة العالمية إلى تباطؤ النمو وامتداد السوق الهابطة في معظم الأصول.
فهل نشهد بداية نهاية "الاستثنائية الأميركية"؟ أم أن اليابان ستكتفي بإعادة التوازن دون إحداث صدمة عالمية؟