إن ما حصل على جوانب مظاهرة يوم الأرض الأخير، من قبيل ترديد شعارات مؤيدة لنظام البعث وعائلة الأسد وضد ثوار الحرية، هو عينياً إهانة لذكرى يوم الأرض ولشهداء 30 آذار عام 1976عندما إختارت الجماهير طواعية الاستجابة لنداء قائدهم توفيق زياد، وفدى الشهداء بدمائهم أهلهم وأرضهم طواعية، وبخيارهم الديمقراطي لأجل حقوقهم وحريتهم، وبهذا أعطوا مثالاً وطنياً وديمقراطياً للمحاربين لاجل حريتهم وحقوقهم في العالم أجمع بما في ذلك لكل من قدم نفسه طواعية ضد حكام عصر الظلام العربي، ليس عندي تفسير ثالث لهذا التصرف، فإما الإندفاع جهلاً أو العمالة غير المباشرة للصليبيين الجدد الذين يروجون لفكرة عدم فهم العرب للديمقراطية وعدم استعدادهم للتضحية من اجل حريتهم.
هذا الإندفاع أصبح مخزياً وعاراً على أصحابه، بعدما تمثل أحياناً في رفع صور بشار الأسد ودعم نظامه الذي يحتل سوريا ويقتل أبنائها، وهي خطوة لا تختلف جذرياً عن رفع الأعلام الاسرائيلية تحت الإحتلال، من قبل زمرة من المتعاونين الفلسطينيين مع الاحتلال في بعض أنحاء الضفة والقطاع، إلا أن الظاهرة مزعجة وحتى مخزية لأنها جزء من توجه يمثل مجموعة، قد لا تصل إلى المئات إلا أن وجودها أصبح مرئياً وقبيحاً في داخله وخارجه.
بشارة استلف فكرة الأوتونوميا للعرب في اسرائيل من سعيد زيداني
إن المعرفة التي أحبطتني والتي تزعجني أكثر هي أن بعضاً من الذين يدعمون نظام البعث والأسد ضد الثورة والثوار، يفعلون ذلك نكاية بمواقف يتخذها حالياً بعض السياسيين مثل عزمي بشارة - الذي إنقلب ليقف ضد النظام القاتل، وليساند موقف المحمية الأمريكية - قطر، وإن هؤلاء جعلوا من موقف بشارة بوصلة لموقفهم، هل هذا معقول؟ فبشارة كما يدرك ذلك كل متابع وكل من أعرفهم من الإخوة السوريين الذين ينضوون حالياً تحت مظلة المجلس الوطني المعارض، لم يتخذ موقفه عن قناعة ولا على أساس كونه ديمقراطياً، وتجربته داخل التجمع الوطني تثبت أنه ليس كذلك، لكن ما حدد موقفه بالتأكيد هو مصالحه الشخصية، وليس الثورة ومستقبلها، وهذا طبعاً ليس جديداً ومعروف من عشرات التقلبات التي يوجهها عنصر الأنانية الشخصية، فعندما دعم بشارة سابقاً نظام الأسد - الأب والإبن- لم يكن هذا النظام أكثر أو أقل ديمقراطية أو عنفاً تجاه السوريين.
من جهة أخرى قام بشارة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي بالترويج لفكرة "الأوتونوميا للعرب في إسرائيل"، وهي فكرة استلفها بشارة من نائب رئيس جامعة القدس حالياً، الأستاذ الجامعي سعيد زيداني، الذي عمل زميلاً لبشارة في جامعة بير زيت عندما نشرت الفكرة فيما يتعلق بنا، وقد طورها زيداني بناء على نقاشات امتدت في اوروبا لمئات السنوات، بشأن حل مشكلة الأقليات في اوروبا الناشئة آنذاك.
انتهازية عزمي بشارة
بعد ذلك ردد بشارة شعار " دولة المواطنين" وجمع كل طاقاته الأكاديمية والخطابية لدعم ذلك، خلال تسعينات القرن الماضي، عندما عمل باحثاً في مؤسسة فان لير الإسرائيلية - الليبرالية واليهودية والصهيونية - في آن واحد، وللأمرين علاقة وثيقة، وهي فكرة كتب عنها الكثيرون في الإطار الإسرائيلي قبل بشارة، من قبل كتاب إسرائيليين، وبالتأكيد سبقه مدير مدى الكرمل الأستاذ الجامعي نديم روحانا في تناول الفكرة، والتي تطورت بالنسبة للأقليات كجزء من المنظومة الاستعمارية في كيانات استعمارية ناجحة، مثل استراليا وكندا والولايات المتحدة، وعرضت القوى الإستعمارية على أهل الوطن الأصليين مكانة المواطنة في إطار دولة المواطنين مقابل قبولهم بالوضع الجديد.
وعندما تلقى بشارة دعم النظام السوري بعد دخوله الكنيست الإسرائيلي وغدا ضيفاً دائماً على التلفزيونات " القومية"، أصبح خطابه قومياً وعروبياً بإمتياز، حتى إن الشعب الفلسطيني أصبح فاصلة صغيرة في خطابه، وذهب إلى حد الإدعاء بان الشعب الفلسطيني هو غير موجود أو على الأكثر على أنه أمر طارئ (وهذا إدعاء سبقه إليه نشطاء الصهيونية)، وغابت الديمقراطية ودولة المواطنين، ولم تبق إلا شعارات يرددها اتباعه من " كتاب البلاط".
وأصبح بشارة مسوقاً لضرورة الجمع بين القومية (العربية) والديمقراطية، مردداً شعار الدولة العربية - الديمقراطية، تماماً كما فعل قبله أستاذ علم الإجتماع الاسرائيلي - سامي سموحة، من قبيل فكرة الدولة " اليهودية عربية وديمقراطية"، سرد بشارة في هذا الإطار - وينسب لنفسه الأسبقية- كل منطق سموحة، في إطار محاولته إثبات الدولة العربية تستطيع أن تكون " عربية وديمقراطية" بالضبط على نفس منوال سموحة - طبعاً لم يناقش بشارة أحد، لان العالم العربي لا يعرف حرارة ومرارة النقاش الذي شارك به بشارة قبل خروجه من البلاد ضد فكرة سموحة، ألخ ... من الأفكار الأساسية التي طرحها خلال سنوات نشاطه.
هذا كله لا يغير حقيقة أن بشارة من ألمع المحللين العرب وأكثرهم جسارة على جمع الأفكار وتفنيدها، ولكنه بالتأكيد ليس مفكراً مبدعاً بمعنى التجديد الفكري، كما يجب أن يدعى على شاشات التلفزيون - مع أل التعريف أو بدونها- فكل أفكاره الأساسية عينياً، وتتم عملية استلافها ونسبها لنفسه كنوع من القرصنة الفكرية، التي تشير كذلك إلى جملة من تصرفات بشارة ، مثل دعم باراك والدعوة للتصويت له عام1999، والتنكر لذلك بعدما قام باراك بإصدار أوامر اطلاق النار خلال هبة القدس والأقصى عام 2000، أو الإئتلاف مع أحمد الطيبي في نفس الإنتخابات والتنكر لذلك بعد الانتخابات مباشرة، وقبل ذلك مع الجبهة في انتخابات 1996، مما يثبت بان الأمر يتعلق ببشارة ومصالحه وليس شركائه.
الكثيرون من الوطنيين هم انتهازيين
وعندما ترك بشارة البلاد في ظل تفاقم أوضاعنا وهجوم غير مسبوق للمؤسسة واليمين علينا - لم يكن ذلك بسبب المقاومة ودعمها، كما أتفق على تسويق الأمر، وأصبح بعد ذلك أحد مصادر تغذية اليمين ضدنا، وموقفه من القضية السورية ليس بحاجة إلى إثبات، وهنا برأيي يشكل حضن حمد الدافئ بالمال الوفير البوصلة الموجهة الرئيسية لبشارة في مواقفه - إنه لأمر لا ينتطح في عنزان "بفكران"، كل هذا لا يقلل من كونه وطنياً ... لكن الكثير من الوطنيين هم من الانتهازيين، وبالتأكيد لا يقلل من وطنية والتزام غالبية قيادات التجمع الوطني، وحتى آخر مصوتي التجمع الذين اعتقدوا بان البوصلة الموجهة لبشارة هو المسطرة الأخلاقية التي يعلنها وليس خليطاً من امور أخرى.
إن محطة الجزيرة تقوم بدور هام في دعم " ربيع الشعوب العربية"، بدون أي شك، إلا ان هذا الدعم يجب أن لا يعمينا عن موقعها وتأثير داعميها ومموليها الذين يعيشون في ظل عمالة دائمة لأمريكا، ولا يستطيعون استضافة أحد في الجزيرة أو على أرض قطر، أو التصرف في أي شان داخلي أو خارجي، بما في ذلك شكل شباك قصر الأمير، إلا بإذن المخابرات الأمريكية، لكن هل هذا سبب للتخلي عن القيم الإنسانية؟ وهل هذا يجب أن يبعدنا عن تأييد الموقف الأخلاقي والسياسي والديمقراطي والوطني للشعب السوري، الذي يموت ويغتصب ويتعرض للعنف النفسي والجسمي ساعة بساعة، من أجل انعتاقه من الاحتلال الأسدي والبعثي واستعادة حريته؟
أصحاب أموال الصمود يشنون هجوماً
طبعاً سيقوم بعض المستفيدين من " أموال الصمود"، التي لا تصل إلى أهدافها، بشن هجوم شخصي باتجاهي، بالأساس بشكل خفي وعلنا فيما ندر، كما فعلوا في الماضي بعد تلقيهم الأموال، "والتوجيهات القومية"، ولن يجرؤ أحدهم على تحد مباشر للحقائق التي ذكرتها آنفاً، لكن هذا بالتأكيد وما قد أدفعه من ثمن شخصي لا يساوي عضو الطفل حمزة الخطيب الذي قطعه شبيحة النظام، نحن في مرحلة حساسة وحرجة، والآن... هذه هي حجارة الوادي التي تبقى إلى الأبد وغير ذلك زوان وزبد.
اتمنى ان يعود بعض الأصدقاء الوطنيين والحقيقيين، وليس التجار إلى مواقعهم الإنسانية والتقدمية، التي لا يمكنها أن تقف سوى مع إرادة الشعب السوري البطل، بغض النظر عن موقف بشارة، والذي سوف يتغير مستقبلاً، ويجب علينا أن نفتش عندها عن المصالح الشخصية، ليس إلا - فهل معقول ان يكون الشخص بهذا الكمال الانتهازي بوصلة للمواقف من أفعال نظام الأسد؟ الموقف الآن يجب أن يكون واحداً وموحداً ضد أخر الطغاة الذي أوقف هذا الربيع العربي العظيم على أبواب عاصمة الأمويين، ومنع تقدمها باتجاه عمان والرياض والدوحة، والذي يخدم كما عادته، مصالح اسرائيلية وأمريكية معادية للعرب ولمستقبلهم