فوز ترامب بولاية ثانية يلقي بظلاله على القارة الأوروبية التي اجتمع زعماء دولها الـ47، أعضاء « المجموعة السياسية الأوروبية» (EPC)، في ضيافة رئيس الوزراء الهنغاري، فيكتور أوربان، في بودابست. وتحوّل الاجتماع، الذي كان مخصصاً في الأصل للبحث في سبل دعم أوكرانيا وقضايا الهجرة والتجارة والأمن الاقتصادي، إلى ساحة للسجال في شأن انعكاسات نتيجة الانتخابات الأميركية على القارة التي ترزح بالفعل تحت ضغوط أمنية واقتصادية واجتماعية لم تشهد مثيلاً لها منذ الحرب العالمية الثانية. وتضمّ « المجموعة السياسية الأوروبية»، إلى دول الاتحاد الأوروبي الـ27، أخرى من الفضاء الأوروبي، بما فيها بريطانيا وأوكرانيا، وتلتئم قمّتها بغرض التشاور وتنسيق المواقف.
وحذّر أوربان، الذي يُعدّ حليفاً وصديقاً لترامب، في الخطاب الافتتاحي للقمّة، من أن «سلام أوروبا واستقرارها وازدهارها في خطر، الوضع الذي تعيشه صعب ومعقّد وخطير جداً». وقال إنه مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فقد زاد معسكر أولئك الذين يريدون السلام في أوكرانيا بشكل كبير، وإن هذا «الوضع الجديد يحتّم على أوروبا أن تستجيب بالضغط من أجل وقف مبكر لإطلاق النار». وكان رئيس الوزراء الهنغاري قد تسبب في خلاف عميق مع بروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي)، بعدما قاد مبادرة ديبلوماسية أخذته إلى موسكو وبكين كما واشنطن، حيث التقى دونالد ترامب (آذار الماضي) سعياً إلى بناء تفاهم معه يوقف الحرب في أوكرانيا. وعليه، اعتبره صقور أوروبا المعادون لروسيا، صاحب إستراتيجية مقنّعة تتلبّس لبوس السلام لكنها تخدم أغراض الكرملين، وشكّكوا في توقيت زيارته التي ترافقت مع تولّي هنغاريا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، على أساس أن ذلك قد يقرأ في موسكو على أنه موقف ضعف وتخلٍّ عن نظام كييف.
ومن بودابست، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأوروبيين لألا «يفوضوا للأبد» أمنهم للأمريكيين، وأنه عليهم «الدفاع» على نطاق أوسع عن «مصالحهم» في مواجهة الولايات المتحدة والصين.
وقال ماكرون في مستهل قمة المجموعة السياسية الأوروبية «هذه لحظة تاريخية حاسمة بالنسبة إلينا نحن الأوروبيين. السؤال المطروح علينا في الأساس هو: هل نريد أن نقرأ التاريخ كما يكتبه الآخرون، الحروب التي شنها فلاديمير بوتين، الانتخابات الأمريكية، الخيارات التي يتخذها الصينيون على الصعد التكنولوجية والتجارية؟ أم أننا نريد أن نكتب التاريخ؟ أعتقد شخصيا أن لدينا القدرة على كتابته».
الرئيس الفرنسي بهذه الكلمات وبمضونها ، يحث أوروبا على الاعتماد على نفسها لمواجهة تبعات نتائج الانتخابات الأمريكية على حرب أوكرانيا تحديدا، إضافة غلى التهديدات الصينية ، وما صرح به ماكرون يعكس الواقع الدفاعي الجديد، فترامب وصل إلى الحكم ومعه رسالة واضحة للأوروبيين، لا دفاع أمريكي بدون إنفاق أوروبي.
وسبق للرئيس الأمريكي المنتخب ترامب أن أعلن عن رفضه لما وصفه «استغلال حلفاء الناتو لبلاده»، على خلفية عدم التزام الدول الأوروبية بتحديد الإنفاق الدفاعي لديها بنسبة 2 بالمئة على الأقل من الناتج المحلي. كما يعرف عن ترامب معارضته للحرب في أوكرانيا، ولاستمرار ضخ المال والسلاح هناك، وقد سبق وصرح في عدد من المناسبات أنه سينهي هذه الحرب حالما يتسلم مهامه في البيت الأبيض.
وعلى الصعيد الاقتصادي فان رئيس الوزراء الإيطالي السابق ، ماريو دراغي، كان قد أعدَّ تقريراً للزعماء الأوروبيين كشف فيه عن تراجع مطرد مثير للقلق في القدرة التنافسية للقارة، والحاجة إلى استثمار أكثر من 800 مليار يورو لعكس ذلك الاتجاه، علماً أن من شأن تعرفات ترامب أن تفقد القارة الأوروبية مجمل فائض ميزان تجارتها مع الولايات المتحدة المقدَّر بنحو 158 مليار يورو سنوياً. ويشكّك الخبراء في قدرة بروكسيل على بناء نسق أوروبي فاعل للتعامل مع منهج انعزالي صارم قد تتبنّاه الإدارة الأميركية الجديدة، لا سيما في ظل الانقسامات الظاهرة بين العواصم الأوروبية في شأن إدارة حرب أوكرانيا، وضعف موقف الرئاسة في فرنسا، واحتمال انهيار التحالف الحاكم في ألمانيا المنهكة - بعدما أقال المستشار الألماني، أولاف شولتس، الخميس، وزير ماليته كريستيان ليندنر -؛ وكلّها عوامل من شأنها أن تجعل من ميزان القوى في غير مصلحة القارة الأوروبية في هذا الوقت الحاسم، ليس فقط في مواجهة تجارية مع الولايات المتحدة، وإنّما أيضاً مقابل روسيا والصين.