وقوفنا اليوم أمام شجرة الزيتون ينطلق من حكاية حقيقية جاءت، أخيراً، على لسان فلسطيني من قطاع غزّة. الرجل، واسمه محمود، أحد من تبقّوا على قيد الحياة من أفراد عائلة غزاويّة تمتهن حصاد الزيتون في موسمه السنوي. قال لمن يحاوره لإعداد تقرير لشبكة "بي. بي. سي" وهو يشير إلى شجرة الزيتونٍ: "هذه هي الشجرة الوحيدة الناجية من أصل 50 شجرة تمّ قصفها، كما كنتُ أنا وثلاثة فقط من أسرتي الناجين الوحيدين من العائلة بأكملها من القصف الإسرائيلي"، قبل أن يستدرك: "لكنّني مصرّ على أن أعلّم ابني ما علّمني إياه والدي، حينما قال لي إننا حتماً سنعود، وسنعيد زراعة ما احترق من أشجار، وسنستكمل حياتنا في هذا الوطن".
ستكتمل رمزية الحكاية في ما قالته أم محمّد، وهي مسنّة من العائلة نفسها: "في موسم الزيتون، كان يشارك كل أبنائنا وأحبابنا والجيران، لكنّهم هذا العام رحلوا عنّا جميعاً، خسرتُ ابني وأحفادي وزوج ابنتي. ومع ذلك ومهما استشهد منّا ومهما حدث لنا، ومهما حرقوا من شجر الزيتون، سنظلّ صامدين، ولو اشتدّ علينا الحصار أكثر من ذلك سنصمد، سنعيش ونموت على أرض هذا الوطن". قبل أن تضيف: "ولو لم نجنِ منه سوى ما يملأ وعاءً واحداً لاكتفينا به وأكلنا منه. الشعب الفلسطيني لا يعرف اليأس، ونحن لن نيأس، ليس أمامنا سوى أن نقوى بعضنا ببعض."
تحت تأثير كلام المرأة، راح من تبقّوا من أفراد العائلة، "وبصوتٍ يختلط فيه الحزن والأمل"، ينشدون الأغنية الفلسطينية المأخوذة من التراث الفلسطيني: "شدّوا بعضكم يا أهل فلسطين... شدوا بعضكم.. وأيدينا واحدة يا يُما أيدينا واحدة"، مذكّرين إيانا بأداء المُسنّة الفلسطينية أيضاً، صاحبة الوجه الوديع، الحاجة حليمة الكسواني (أم العبد)، التي تفيد سيرتها بأنّها استقرّت في مخيم الزرقاء الفلسطيني في الأردن منذ عام 1961، بعد أن هُجرت من مسقط رأسها، قرية بيت إكسا قضاء القدس، ويقال إنّ أول من أدى البيت الأول "شدّوا بعضكم"، قبل عقود هو الفنان أبو ظريف الحرازين، من أهالي حيّ الشجاعية في غزّة عينها.
لم تكن أشجار زيتون هذه العائلة وحدها من استهدفها العدّو، الذي "تعمّد تدمير جميع الأراضي الزراعيّة في قطاع غزّة، البالغة مساحتها 180 ألف دونم مزروعة بالخضراوات والفواكه والمحاصيل الحقلية"، بما في ذلك أشجار الزيتون التي تشكّل نحو 60% من أشجار البستنة في القطاع، استهدفت بشكل ممنهج، ولم يتم جني ما تبقى من ثماره للعام الثاني على التوالي.
نقف أمام الزيتون، لأنّ لنضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه الوطنية مجموعة رموز، آتية من تراث الشعب وتاريخه، فلو أخذنا الملبَس مثالاً، فإنّ الكوفية الفلسطينية، بنقوشها المميزة، غدت رمزاً أمميّ الدلالة، لفلسطين وقضيتها، وبات ارتداؤها مصدر غيظ شديد من الصهاينة وداعميهم في الغرب. ولو أخذنا المأكل، فإنّ شجرة الزيتون غدت هي الأخرى من رموز صمود الفلسطينيين وتمسّكهم بأرضهم، ولعلّ الأدب الفلسطيني الحديث أكبر شاهدٍ على حضور هذا الرمز في الوجدان الفلسطيني. هذا ما عبّر عنه محمود درويش ببلاغة في قصيدته "شجرة الزيتون الثانية": "شجرة الزيتون لا تبكي ولا تضحك/ هي سيدة السفوح المحتشمة/ بظلّها تغطي ساقها، ولا تخلع أوراقها أمام عاصفة/ تقف كأنّها جالسة، وتجلس كأنّها واقفة/ تحيا أختاً لأبدية أليفة وجارة لزمن/ يعيها على تخزين الزيت النوراني وعلى نسيان أسماء الغزاة".
ولخّص الأديب الفلسطيني رشاد أبو شاور، الذي رحل أخيراً، وصف نمو شجرة الزيتون في عمق الفلاح الفلسطيني من خلال وصفه حال سلمان بطل روايته "أيام الحبّ والموت" الذي فعل ما فعله الفلاح الغزّاوي محمود، حين حرص على أن يوصي ابنه بأن يرث رعاية أشجار الزيتون، وحصاد محصولها في كل موسم، فإنّ بطل رواية أبو شاور، وبعد أن اضطرّت العائلة لمغادرة ضيعتها هرباً من وحشيّة المستوطنين الصهاينة، خاطب ابنه: "شايف ها لشجر... هالتين والزيتون والعنب هالأرض اللّي مثل الحنّون. هاذي إلك يوم ما ترجع إلها اتذكرني. اتطلّع مليح فيها... شم ريحة التراب خليها ما تروح من بالك، خليك ما تنساها، خلي ريحتها تذكرك فيها وفي عظامي اللّي بدها تذوب فيها".