مقال في الصميم وجريء يشخص واقع بورصة عمان الحقيقي، كتبه مجد شفيق المفوض السابق في هيئة الأوراق المالية وعضو مجلس إدارة سابق في بورصة عمان، مستعرضاً به واقع البورصة تاريخياً ومحدداً أهمية البورصة وضرورة وجودها وحمايتها وتحفيزها وتنشيطها باعتبارها جزءاً مهماً في الواقع الاقتصادي الأردني. تطرق في مقاله إلى محطات هامة وضرورية وكيف كانت البورصة في بدايات عام ٢٠٠٠ حتى عام ٢٠٠٨، حيث الأزمة المالية العالمية التي فقدت بها البورصة مكانتها كسوق ناشئ وتم تخفيض تصنيفها إلى سوق نامٍ، مشيراً إلى أن بورصة عمان بعد الأزمة العالمية لا تزال أرقامها تراوح مكانها بسبب الإحجام عن الاستثمار والتداول في بورصة عمان، مقدماً تشخيصاً حقيقياً للواقع ومقدماً ١٩ إجراءً ومبادرة مقترحة قابلة للتنفيذ خلال فترة زمنية لا تتجاوز السنتين بهدف تحفيز وتنشيط البورصة. وفيما يلي النص الكامل لمقال الخبير شفيق:
من لا يعرف تاريخه لن يتمكن من خط مسار مستقبله بحنكة ودراية، وهذا ينطبق على المؤسسات كما على الافراد والدول. وتاريخ بورصة عمّان، البورصة الوطنية والوحيدة في المملكة الأردنية الهاشمية، هو جزء من التاريخ الاقتصادي لهذا البلد، وسجل مالي يعكس روح الريادة المتأصلة فيه.
وقد لا يخدم أغراض هذا المقال العودة إلى اربعينيات القرن الماضي عندما كان المواطن الأردني يتداول أسهم حفنة من الشركات التي كانت موجودة آنذاك، أو التمحيص في عقد السبعينيات عندما نشأت حركة تداول نشطة في أسهم البنوك والشركات الجديدة، ولهذا التاريخ كله علينا حق وواجب التوثيق.
إن الناظر إلى تضاريس أسواق رأس المال، أو أسواق الأوراق المالية، في الدول العربية، يلحظ نقطة تحول مهمة سنة ١٩٩٩ – ٢٠٠٠، عندما بدأت البورصات في المنطقة مرحلة البناء والتطوير. وتزامنت تلك الفترة مع تسلم ملك ذو رؤية مستقبلية سلطاته الدستورية ملكا للمملكة الأردنية الهاشمية، الملك عبد الله الثاني، الحفيد الحادي والأربعون للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم.
وقد أولى جلالته، أطال الله في عمره، منذ آنذاك، النواحي الاقتصادية للوطن جل اهتمامه. وانعكس ذلك آخر ما انعكس في رؤية التحديث الاقتصادي ٢٠٣٠ وما أوصت به من مبادرات إصلاحية وتطويرية تتعلق بالقطاع المالي وسوق الأوراق المالية.
إن البورصة، أية بورصة في العالم، هي القلب النابض لسوق رأس المال في تلك الدولة، وكذا الحال لبورصة عمّان. وسبق أن صنفت بورصة عمان بالمرتبة السادسة من بين أفضل عشرة بورصات عالمية أداءً في العالم في عام 2001، ومرة أخرى بالمرتبة الثامنة في عام ٢٠٠٨. وكان معدل التداول اليومي آنذاك يقارب ال ٨٠ مليون دينار يوميا، مقارنة بحوالي ٥ ملايين دينار هذه الأيام، مما ولد ايرادا لا يستهان به لخزينة الدولة، وجذب الاستثمارات الدولية والعربية للمملكة.
إلا أن سنة ٢٠٠٨ شهدت أحداثا أثرت بشكل سلبي على بورصة عمّان، منها الأزمة المالية العالمية وفقدان البورصة الأردنية مكانتها كسوق ناشئة Emerging Market وتخفيض رتبتها من قبل الجهات الدولية المختصة إلى سوق نامية Frontier Market، مما تسبب في خروج عدد كبير من صناديق الاستثمار العالمية التي كانت نشطة في بيع وشراء الأسهم المدرجة في بورصة عمان.
ومن الملفت للنظر أن سنوات ما بعد الأزمة المالية العالمية ٢٠٠٨ – ٢٠٠٩ شهدت ارتدادات إيجابية في أحجام التداول والمؤشرات السعرية لمعظم البورصات العربية إلا بورصة عمان التي لا تزال أرقامها تراوح مكانها لسنين عديدة. وعليه، فان السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا هذا الاحجام عن الاستثمار والتداول في بورصة عمان، والذي أدى الى تدني السيولة في البورصة وعدم تحسن مؤشراتها السعرية؟
إن التطورات المستمرة والمتواصلة في أسواق الأوراق المالية في العالم تمكن الشركات الأردنية حاليا من إدراج أسهمها في بورصات خارج المملكة، عربية أو عالمية، بهدف زيادة رؤوس أموالها دعما لمشاريعها التوسعية، وسعيا وراء الادراج في بورصات تتمتع بسيولة مرتفعة نسبيا، وهو أمر ضروري للحفاظ على مستويات سعرية، لا أقول عادلة، فهذا في عين الناظر، وإنما مستويات سعرية غير مجحفة بحق حملة أسهم الشركة.
إن نموذج عمل أي بورصة هذه الأيام يرتكز على حلقة متواصلة حميدة virtuous cycle: ارتفاع حجم السيولة يؤدي إلى زيادة أعداد الشركات المدرجة، مما يؤدي بدوره إلى زيادة عدد المستثمرين والذي يحفز بدوره نشاط شركات الوساطة، مما ينعكس إيجابيا على حجم السيولة والذي يشجع المزيد من الشركات على الادراج في البورصة، وهلم جرا. ومن الملفت للنظر أن بورصة عمان لم تشهد أية إدراجات جديدة منذ عام ٢٠٠٩، وهو أمر له أكثر من معنى ودلالة.
ومما لا شك فيه أن الشركات المدرجة في بورصة عمان قطعت شوطا لا يستهان به في تطبيق معايير الحوكمة الرشيدة إلا أن الامر يتطلب جهدا إضافيا لمواكبة الممارسات الدولية المثلى في هذا المجال، وخاصة فيما يتعلق بالإفصاح بنوعيه الدوري والآني. كما أن هناك نقصا في التقارير البحثية المتعلقة بالأسهم المدرجة والهادفة لتوعية المستثمرين بأحوال وأضاع الشركات في البورصة.
وقد مكن التقدم التكنولوجي المستثمرين الأردنيين من التداول في الأسواق والبورصات الإقليمية والدولية، بشكل مستمر وبسهولة، مما أدى إلى سحب سيولة لا يستهان بها من بورصة عمان. ولم تقم بورصة عمان بأي حملات ترويجية تستهدف المستثمرين الدوليين منذ سنوات عديدة، مقارنة بالبورصات العربية الأخرى.
لقد أكدت رؤية التحديث الاقتصادي ٢٠٣٠ على أن وجود سوق رأس مال قوي في الاردن وبورصة نابضة بالحياة في جوهره هو جزء لا يتجزأ من درع المملكة الاقتصادي. إن تمكين الشركات الصغيرة والمتوسطة من الحصول على الاستثمارات اللازمة لدعم نموها وتطورها أصبح قضية حاسمة بالنسبة للأردن، خاصة في ظل أرقام بطالة مرتفعة بين الشباب ونسب نمو متواضعة للناتج المحلي الإجمالي، ولبورصة عمان دور أساسي في مأسسة وتطوير قنوات الاستثمار بين هذه الشركات والصناديق الاستثمارية العربية والدولية.
وقد حدت مستويات الدين العام وعجز الموازنة في المملكة من قدرات الحكومات المتعاقبة على توظيف الأموال العامة في تطوير البنية التحتية الضرورية لدعم النمو الاقتصادي بكافة أشكاله. إن إنشاء "صندوق أردني لتطوير البنية التحتية" وإدراج وحداته الاستثمارية في بورصة عمان، وبشكل تكون هذه الوحدات متاحة للمستثمر الأردني والعربي والدولي، من شأنه أن يقطع شوطا كبيرا في تلبية الاحتياجات المالية لتطوير البنية التحتية، وما يتبع ذلك من حركة اقتصادية نشطة.
ومما لا شك فيه، أن العديد من الشركات والبنوك المدرجة في بورصة عمان تقدم فرصا استثمارية ممتازة، فبعض القطاعات جاهزة للاندماج، كما يتمتع الأردن بأكبر احتياطيات العالم من الفوسفات والبوتاس، والأسواق العربية المجاورة في الخليج واعدة للمصدرين الاردنيين، كما فتحت اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة سوقا تصديرية كبيرة للشركات الأردنية.
وإذا كانت الأيام الختامية لعام ٢٠٠٨ قد شكلت نهاية حقبة لبورصة عمان، فإن عام ٢٠٢٤ يمكن أن يمثل بالتأكيد بداية لحقبة جديدة، والسؤال هو كيف يمكن تحقيق ذلك.
إن حماية المستثمر وتوفير السيولة هما ركيزتان أساسيتان تقوم عليها أسواق رأس المال الناجحة. وعادة ما تكون حماية المستثمر من مسؤولية الجهة الرقابية، في حين تكون السيولة نتيجة مباشرة لجهود حماية المستثمر، وتوفير السيولة للأوراق المالية هو السبب الأول والأخير لوجود أي بورصة.
وفي الأردن، فالجهة الرقابية لسوق الأوراق المالية هي هيئة الأوراق المالية المنوط بها، كما باقي دول العالم، إنفاذ قانون الأوراق المالية والأنظمة والتعليمات الصادرة بموجبه، وهي حامل راية إصلاح وتطوير السوق. أما بورصة عمان فهي السوق الذي يتم من خلاله بيع وشراء الأصول المالية بما فيها أسهم الشركات المدرجة، والتي تستخدم البورصة لزيادة رؤوس أموالها من خلال طرح أسهم جديدة للاكتتاب من قبل جمهور المستثمرين. ويأتي مركز إيداع الأوراق المالية كمؤسسة ثالثة رديفة للهيئة والبورصة يتم من خلاله توثيق ونقل ملكيات الأوراق المالية، والتسويات المالية بين شركات الوساطة.
ما يلي أدناه هو عدد من الإجراءات والمبادرات المقترحة والقابلة للتنفيذ خلال فترة تتراوح بين سنة إلى سنتين، تقودها بورصة عمان بدعم من هيئة الأوراق المالية ومركز الإيداع. والهدف، دائما وأبداً، هو الوصول إلى سوق أردني للأوراق المالية يتمتع بدرجة عالية من العدالة والكفاءة والسيولة والشفافية.
1) التطبيق الحازم والحصيف لمتطلبات الإفصاح وحوكمة الشركات المدرجة، مع التركيز على الافصاح الصحيح، الكامل، الدوري والآني، وتداولات وتعاملات ذوي العلاقة مع الشركات المدرجة وأسهمها.
2) استخدام نظام عالمي لمراقبة التداول في بورصة عمان لرصد المخالفات وخاصة المتعلقة بالتداول بناءً على معلومات داخلية أو سرية، وبما يضمن الحفاظ على ثقة المستثمرين في السوق.
3) مراجعة قانون الأوراق المالية وقانون الصكوك وإزالة التناقضات والأجزاء التي لا تتوافق مع أفضل الممارسات الدولية.
4) تحفيز انشاء وإدراج وتداول صناديق المؤشرات السعرية ETF في بورصة عمان.
5) إنشاء فرع في الأردن لجمعية علاقات المستثمرين في الشرق الأوسط (MEIRA) حتى تتمكن الشركات المدرجة من تطوير مهارات الاتصال اللازمة للتواصل مع المستثمرين بهدف الترويج للأسهم المدرجة في بورصة عمان.
6) تنظيم حملات ترويجية للمستثمرين الدوليين في مراكز الاستثمار العالمية مثل لندن ونيويورك ودول الخليج العربي: الذهاب إلى أماكن تواجد المستثمرين وعرض قصص نمو ونجاح الشركات المدرجة في بورصة عمان.
7) إطلاق برنامج تثقيفي حول سوق الأوراق المالية، ودور الهيئة والبورصة ومركز الإيداع وشركات الوساطة وآليات التداول، يستهدف شريحة المستثمرين الأردنيين ويركز على ثقافة الاستثمار والادخار ودور المستثمر الفرد كشريك في في تطوير سوق رأس المال.
8) تحفيز إعداد ونشر تقارير بحثية حول الشركات المدرجة ومن قبل عدة جهات حتى تكون قرارات المستثمرين أقل اعتماداً على المشاعر والعواطف وأكثر اعتمادا على التحليل النوعي والكمي لأداء الشركات.
9) تحفيز الشركات العائلية والشركات المساهمة الخاصة والمؤسسات المملوكة للحكومة على الإدراج في بورصة عمان، وشرح فوائد الإدراج من حيث المقدرة على زيادة رأس المال وتعظيم قيمة الشركة، وتقديم حوافز ضريبية لفترة محدودة لتشجيع الشركات على الإدراج، أسوة بالممارسات الدولية.
10) إنشاء نافذة استثمارية متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية في بورصة عمان.
11) تحفيز البنوك وشركات الخدمات المالية على القيام بمهام صانع السوق Market Maker لاسهم معينة، وذلك ضمن إطار مناسب لبيئة التداول في بورصة عمان، مما يزيد من مستويات السيولة ويحد من التقلبات الحادة في أسعار الأسهم المدرجة، آخذين بالتطبيقات المعمول بها في البورصات العربية في هذا المجال.
12) تسهيل إصدار وإدراج وتداول أسناد قرض الشركات والبلديات والصكوك الاسلامية.
15) تشجيع الشركات المدرجة في بورصة عمان على إصدار إيصالات إيداع عالمية Global Depository Receiptsلإدراجها في البورصات العربية والعالمية، تتمكن الشركات الأردنية من خلالها زيادة رؤوس أموالها واستقطاب صناديق الاستثمار الدولية لأسهمها.
16) استعادة تصنيف "سوق أوراق مالية ناشئ" Emerging Market Status للأردن على المؤشرات العالمية بهدف رفع سوية السوق وجذب استثمارات المحافظ الدولية إليه.
17) إنشاء بورصة مستقلة أو كجزء من بورصة عمان لإدراج أسهم الشركات الناشئة والصغيرة والمتوسطة، مما يدعم جهود ريادة العمال في الأردن بتوفير آلية إضافية لهذه الشركات للحصول على التمويل اللازم للنمو والتوسع.
18) إنشاء صندوق الأردن لتطوير البنية التحتية وإدراج وحداته الاستثمارية في بورصة عمان لتلبية احتياجات تمويل البنية التحتية في المملكة وخلق فرص استثمارية للمواطنين الأردنيين ودعم الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
19) إدراج أسهم بورصة عمان على ذاتها وبيع جزء منها للمستثمرين الأردنيين وذلك بإعطاء حق الاكتتاب بشرائح معينة من أسهم شركة بورصة عمان إلى القوات المسلحة الأردنية والأجهزة الأمنية وصندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي وصناديق تقاعد النقابات وشركات الخدمات المالية وغيرها، مما يفتح الباب أمام الأردنيين لتملك أسهم في بورصتهم الوطنية، والعمل على استقطاب بورصة عربية أو عالمية كشريك استراتيجي لبورصة عمان.
وختاما، لا بد أن أشكر القائمين على بورصة عمان إدارة وموظفين على جهودهم القيمة خلال السنوات الماضية إلا أن اليد الواحدة لا تصفق، وقرار دعم وتطوير أي بورصة وطنية ليس قرار حكومة بل هو قرار دولة عابر للحكومات. وعليه، فلا بد من انشاء مجلس وطني لسوق الأوراق المالية برئاسة صاحب الولاية العامة رئيس الوزراء يضم في عضويته وزير المالية ووزير الصناعة والتجارة ومحافظ البنك المركزي ورئيس هيئة الأوراق المالية ومدير بورصة عمان ومدير مركز الإيداع، لوضع والاشراف على تنفيذ خطة تفصيلية متكاملة لإصلاح وتطوير سوق الأوراق المالية الأردني، بما يخدم الشركات الأردنية والمستثمرين واقتصاد الوطن.