رغم الانتعاش العقاري الجزئي لمرحلة ما بعد كورونا والمدفوع بالتحوط تجاه الموجة التضخمية العالمية الراهنة، لا تزال هنالك تحديات ماثلة أمام القطاع الأضخم بشقيه التأجيري والتداولي: تشريعية ومؤسسية ورقابية وحافزية، ينبغي معالجتها في إطار خطة عمل وطنية لعنقود العقار والإسكان(1) . والتطوير المؤسسي من ناحية، والمساءلة، بشقيها الإدارية والديمقراطية، من ناحية أخرى، هما الأساس في تجاوز مصيدة الدخل المتوسط المتدني، كونهما القاطرة والمحرك الأساسي للتنمية الوطنية المستقلة والمستدامة(2) .
نتائج القطاع العقاري في عامي 2022 و2021، المفصلة في الحلقة الماضية، هي محصلة لتداخل ثلاثة عوامل أساسية:
1- الصدمات الخارجية المتمثلة في تداعيات وباء كورونا والتضخم العالمي في أسعار الشحن والنقل العام وأسعار المواد الإنشائية الأولية والوسيطة.
2- مواقف السياسات المحلية، وأبرزها حزمة تحفيز النمو العقاري بدءاً من 2019 المتمثلة في تخفيض أو اعفاء رسوم تسجيل العقار من ناحية، وارتفاع فوائد الإقراض المصرفي وشح السيولة العامة بصورة ملموسة من ناحية أخرى.
3- الظروف الأولية للعنقود، وابرزها: إخفاقات السوق العقاري بعد وباء كورونا وقبله وتدهور رأس المال الاجتماعي (كضعف الثقة بين المالكين والمستأجرين)، وضعف الأداء البيروقراطي، وتشتت الإطار المؤسسي للقطاع داخل وبين مكوناته الفرعية (التأجير والتداول العقاري).
المراحل الأربع للتشخيص والإصلاح
بعد مراحل التوصيف الدقيق للقطاع وقياس أدائه وتفسير هذا الأداء، تأتي المرحلة الرابعة والأكثر صعوبة في ممارسة الخبرة الاقتصادية وهي التوصية بالحلول والإصلاحات القطاعية. فمن الأمثلة الحيّة على تعقيد السياسات العقارية وغموضها وتأثرها بالحوافز والأولويات، نصّت الاستراتيجية الوطنية للإسكان لعام 1989 على توصية رئيسية بتشكيل مجلس أعلى للإسكان في الأردن(3) في ضوء تداخل اختصاصات العديد من الجهات الحكومية المعنية بالإسكان(4) مع بقاء المؤسسة العامة للإسكان والتطوير العقاري كجهة فنية مساندة للمجلس.
لكن هذه التوصية بعد أكثر من ثلاثة عقود لم تجد طريقها الى التنفيذ، رغم وجاهتها ووجود أمثلة على التطبيق الناجح لهذا النموذج المؤسسي للتنسيق الحكومي (مثال: المجلس الأعلى للسّكان المعني بالسياسات السكانية، بما فيها الصحة الإنجابية).
ويمكن تصنيف مصفوفة الإصلاحات والتدخلات العقارية المقترحة الى أربعة مجالات رئيسية هي:
- الإطار المؤسسي (الإداري) والحوكمة العقارية
- الإطار التشريعي
- الإطار الرقابي والتنظيمي
- الإطار الحافزي (الضريبي والائتماني)
كما أن التوصيات يمكن أن تكون عامة تخص القطاع أو العنقود(5) بأكمله أو تستهدف نشاط فرعي محدد (مثال: نشاط التأجير العقاري).
ساعة الحقيقة: ما الحلول المقترحة لعنقود العقار والإسكان الأردني؟
أولاً: نشاط التأجير العقاري بشقيه السكني والتجاري (30% من مجموع العقارات مؤجرة للغير أو ما يزيد على نصف مليون عقار في الأردن):
بغية تحفيز القطاع الخاص للاستثمار في قطاع الوحدات السكنية المعدة لغرض الإيجار، يتوجب تعزيز الثقة في النشاط التأجيري وتقليل كلفة التعاملات Transaction Costs في سوق التأجير وتسهيل مدة وكلفة التقاضي عند الحاجة، من خلال:
- تشجيع تأسيس جمعيات تعاونية للمالكين المؤجرين توفر الاستشارات القانونية الموثوقة والميسرة وتساعد في خلق بيئة تمكينية ل "الإيجار الآمن والعادل".
- وضع سقوف عليا على الزيادة السنوية للإيجارات لا تتجاوز معدل التضخم السنوي، خصوصاً فيما يخص المحال التجارية.
- مراجعة قانون المالكين والمستأجرين لعلم 2012 بما يخفف من النزاعات الايجارية ويحمي حقوق الأطراف الايجارية بعد ترهلٍ ملحوظ بسبب ظل كورونا الطويل.
- إعداد قائمة سوداء ورمادية بأسماء المستأجرين غير الملتزمين بالعقود الايجارية وبأسماء المكاتب والشركات العقارية الوسيطة المتلاعبة. وهنا يمكن الاستفادة من تجربة الهيئة العامة للعقار في السعودية ومنصتها الإلكترونية "إيجار"، والاستئناس كذلك بالتجربة المصرفية الاردنية في رصد تاريخ وسجل المقترضين المماطلين أو الممتنعين عن السداد من خلال تأسيس شركة للمعلومات الائتمانية تكافئ الممتثل وتعاقب المخالف. فليس من المعقول ان ينتقل المستأجر من عقار الى آخر ودون أن يسدد ما عليه من إيجارات متراكمة وفواتير الكهرباء والماء، في حين أن المالك مجبر بدفع قسط البنك ونفقات الصيانة والمسقفات أو/و ضريبة الدخل.
- تطوير آليات وإجراءات إضافية وجديدة لإدارة وتسوية النزاعات العقارية بصورة ميسرة، من أمثال مجموعة المالكين المؤجرين في الاردن.
- وهنا أرى من المناسب تقديم ايجاز حول منصة "إيجار" من التجربة العقارية السعودية المتقدمة، وأرى النظر في تطبيقه بداية على سوق التأجير المكتبي كونه يعاني من فائض عرض وكلف متزايدة وتلاعب متفاقم بما ينعكس على الوضع المصرفي والشخصي.
"إيجار" هو برنامج الكتروني رسمي يهدف الى تنظيم سوق التأجير العقاري وحفظ حقوق أطراف العملية الإيجارية (المستأجر والمؤجر والوسيط العقاري) والى التوثيق الإلزامي للعقود الايجارية الموحدة ومن ثم تقديم حلولاً تكاملية بما فيها: تحصيل وسداد الإيجارات الكترونيا، وسهولة وسرعة التقاضي عند الحاجة، وإنعاش الوسطاء العقاريين المعتمدين، وتوفير معلومات حول المستأجرين غير الملتزمين (القائمة السوداء).
ثانياً: نشاط التداول العقاري
وهو أمر هام من منظور السياسة الاقتصادية الكلية لدوره الفاعل في النمو والثروة وتوفير السيولة الشحيحة ومن أجل جذب الاستثمار العربي في الاقتصاد الوطني، وليس شأنا "قطاعياً" صرفاً.
- تنفيذ مبادرات متميزة وملموسة -بالشراكة بين القطاعين العام والخاص- لخلق توقعات تفاؤلية في قطاع العقار بناء على برامج ريادية ومشاريع عملية، وليس مجرد صُوراً فخرية و"ثرثرة" عقارية.
- مراجعة وإصلاح الإطار المؤسسي المسؤول عن عنقود "العقار والإسكان" وتطويره لمصلحة العنقود والاقتصاد طويلة الأجل، وتحديد "القائد" أو المسؤول الأول عن رسم ومتابعة تنفيذ خطة العمل الوطنية (بما فيها خارطة لفرص الاستثمار العقاري) في عنقود "العقار والإسكان".
دول الخليج العربي اتجهت مؤخراً قبيل وباء كورونا وبعده بإنشاء هيئات تطويرية وتنظيمية وتمكينية موحدة لقطاع العقار، وهو خيار تنافسي وقوي، ويوازن ثقل التداعيات العقارية لكورونا، لكن انشاء وحدات حكومية مستقلة جديدة أصبح خياراً مكلفاً على الموازنة العامة الاردنية وربما الأفضل تطوير المؤسسات العقارية القائمة وتفعيل كفاءتها ودورها في رسم السياسة العقارية الشاملة ومتابعة تنفيذها وفق تشريعات جديدة نافذة مع تأسيس مجلس أعلى للعقار لضمان المساءلة والامتثال!.
- مراجعة الإطار الرقابي والتنظيمي لقطاع الإسكان بما يخفف من عدد ووقت وكلفة الإجراءات التنظيمية المطلوبة من الشركات العقارية الصغيرة والمتوسطة في نشاطها العقاري. وبهذا الشأن، يشير التقرير الدولي المشهور لممارسة للأعمال Doing Business Report 2020 الصادر عن مجموعة البنك الدولي الى أن ترتيب الأردن عالمياً في مجال الحصول على إذن الإنشاءات هو 138 من أصل 190 دولة مدرجة في التقرير، مقابل ترتيب أفضل بوضوح لتركيا (53) ومصر (74).
- مراجعة الحوافز الضريبية التحفيزية وتخفيف العبء الضريبي(6) وتقييم برامج الائتمان والدعم الموجه لعنقود العقار والإسكان الاجتماعي بما يزيد من الفعالية مع تراكم الصدمات الخارجية على هذا العنقود الهام.
- المبادرة الى تعديلات تشريعية (قوانين وأنظمة وتعليمات) ضرورة وتوحيدها لعنقود العقار والإسكان، فيما يخص محاور التخطيط وحقوق الملكية والانتاج والتأجير والتطوير والتمويل العقاري.
- دراسة سبل تخفيض أسعار الأراضي لأغراض التطوير العقاري المستهدف وتخفيض كلفة البناء لذوي الدخل المحدود والمتوسط، باعتبارها البند الأكبر حجماً في هيكل التكاليف العقارية. هذا سيعزز من الطلب والتنافسية العقارية في عالم مفتوح.