لا بد أولا من استثناء التفسيرات الحادة والمتطرفة التي يطلقها بعض المتطرفين من الجانبين لتبرير حالة القطيعة، من قبيل الادعاء بوجود منهجين لا يمكن التقاؤهما هما منهج المقاومة والنضال والثوابت من جهة، ومنهج المساومة والاستسلام والتنسيق الأمني من جهة ثانية، يقابله منطق اتهام الخصم بأنه يعمل وفق أجندات دولية وإقليمية في غير صالح شعبنا، لأن أصحاب هذا المنطق هم أنفسهم الذين يتراجعون عنه في اللقاءات والحوارات الوطنية، ويوقّعون على مزيد من الاتفاقيات، بل ويتحمس بعضهم للحديث عن ضرورات الشراكة التي تصل أحيانا إلى الاستعداد لتشكيل قوائم موحدة لخوض الانتخابات.
نستبعد هذه التفسيرات "الإقصائية" لعدة أسباب من بينها الأسباب الموضوعية وحجم القواسم المشتركة بين جميع القوى الفلسطينية من جهة، وتشخيص التناقض الرئيسي مع الاحتلال الذي يتقدم على كل التناقضات والتباينات الثانوية. وفي التحليل العياني سنجد أن المقاومة، والتنسيق الأمني بأشكاله المتعددة موجودان على جانبي المتراس، فلا يمكن لطرف أن يدعي أنه الوكيل الحصري للمقاومة، ولا اتهام الخصم وتبرئة الذات بشأن التنسيق الأمني. كما أن تداخل وتعقيد الموضوعات والقضايا الوطنية والاجتماعية الداخلية ينتج مروحة واسعة جدا من المواقف القابلة للتغير بصورة مستمرة.
يبقى علينا البحث إذن في الأسباب الحقيقية التي دفعت إلى إطالة أمد الانقسام وتكريسه إلى الدرجة التي بات البعض يعتقد معها أن الانقسام تحول إلى انفصال دائم له تجلياته السياسية والقانونية والإدارية والاجتماعية، بل قرأنا في أدبيات بعض الكتاب والفصائل دعوات إلى تبني نوع من الفيدرالية بين الضفة وقطاع غزة، ولا نبالغ إذا ذهبنا إلى أن بعض اتفاقيات المصالحة تبنت شيئا من هذا القبيل من دون أن تعلنه بشكل صريح.
من أهم الأسباب التي ساهمت في تكريس الانقسام التدخلات الدولية والإقليمية، وأبرزُها وأخطرُها بالطبع التدخلات الإسرائيلية، حيث لم يُخْفِ المسؤولون الإسرائيليون في تصريحاتِهم وفي سلوكِهم دعمَهم للانقسام الذي قال عنه بنيامين نتنياهو أنه يمثل "مصلحة استراتيجية إسرائيلية". فالانقسام يضعف الصفة التمثيلية لأية قيادة فلسطينية، وبالتالي يساعد إسرائيل على التهرب من أية استحقاقات سياسية، ويشجعها على التعامل مع الفلسطينيين بوصفهم تجمعاتٍ سكانيةً متناثرة لكل منها مطالبُه الحياتية الخاصة به: معابر، حواجز، تصاريح، دخول مواد التموين والإعمار، ماء وكهرباء ووقود، مساحة الصيد البحري، حركة الشرطة وقوى الأمن بين محافظات الضفة، وغير ذلك من قضايا بدل أن يكونوا شعبا موحدا له قضاياه الكبرى التي يتحد في النضال من أجلها كقضايا القدس وعودة اللاجئين ومواجهة الاستيطان وإنهاء الاحتلال.
تدخلات إسرائيل في تغذية الانقسام وإطالته لم تقتصر على التصريحات والتهرب من الاستحقاقات السياسية، بل شملت برمجة الاعتداءات العسكرية بما ينسجم مع هذا الهدف، وفرض سلسلة من العقوبات على السلطة وحجز الأموال الفلسطينية عند تشكيل حكومة الوحدة الوطنية.
كما تعددت التدخلات الدولية لتشجيع الانقسام ومن بينها وضع شروط تعجيزية ( مثل شروط الرباعية) تطالب الفصائل بتغيير مواقفها ما يؤدي إلى إضعاف فرص تشكيل حكومة وحدة وطنية لا معنى لإنهاء الانقسام بدونها. كان يمكن تفهّم مطالبة هذه الأطراف الحكومة الفلسطينية التزام مبادئ محددة، أما مطالبة فصيل بعينه تغيير برنامجه فذلك هو تَبَنٍّ مجانيٌّ للشروط الإسرائيلية الرامية لعرقلة الوحدة الفلسطينية، وهذه الأطراف الدولية لم تتدخل بأي شكل مع برامج الأحزاب الإسرائيلية المشاركة في الحكومة الحالية والتي تتبنى مواقف عنصرية وفاشية صارخة، تصل إلى حد تبني خيار الترانسفير وإنكار وجود الشعب الفلسطيني فضلا عن إنكار حقوقه الوطنية. وهي لم تعترض على الاتفاقيات الائتلافية بين مكونات هذه الحكومة التي تتعارض مع القوانين والمواثيق الدولية، وتناقض كل الاتفاقيات التي وقعتها حكومات إسرائيل.
كل العوامل الخارجية لا يمكن لها أن تؤثَّرَ لإطالة أمد الانقسام، دون وجود عواملَ داخلية تستقبلها. في مقدمة هذه العوامل استمرار وجود أوهام بإمكانية تحصيل شيء ضمن الظروف الحالية (اي في ظل وجود حكومات إسرائيلية متطرفة ومدعومة بشكل مطلق من الولايات المتحدة). نسمع هذا الرأي بتعبيرات شتى من قبيل "إيجاد أفق سياسي" أو استشراف هذا الأفق أو البحث عنه وكأنه ضائع! هذا المنطق يشبه انتظار معجزة من السماء، كأن يقتنع العالم ومعه أميركا وأوروبا بوجاهة مطالبنا ومشروعيتها، وبالتالي لا يرى أصحاب هذا الرأي ضرورة ملحة لإعادة ترتيب أوضاعنا الداخلية، وتفعيل عناصر القوة المهمّشة بما يمكن من تحسين موازين القوى لصالحنا.
ربما قادت تطورات العامين الأخيرين ووصول أقصى اليمين المتطرف إلى الحكم في إسرائيل، إلى تراجع الأوهام بإمكانية تحصيل شيء ما لصالحنا في ظل هذه الموازين. هنا تحضر العوامل الذاتية الأكثر تأثيرا في إطالة أمد الانقسام وتكريسه وهي المصالح التي نشأت ونمت وتعاظمت على مرّ السنين، ولا يقتصر الأمر على المصالح المادية والاقتصادية المباشرة بل يشمل كذلك مصالح النفوذ والمناصب المكتسبة والاستفراد في الحكم. وهي مصالح تفتح الباب على مصراعيه أمام كل أشكال الفساد والاستبداد وتصبح معها الشراكة الوطنية وتفعيل أدوات الرقابة الشعبية عبئا على الحكام والمسؤولين.
ربما يكون أصحاب المصلحة في استمرار الانقسام أقلية بالنسبة للشعب، لكنها أقلية مؤثرة وحاسمة، وهي قادرة على اختراع أسباب يومية لإطالة الانقسام ما لم تُجابه بضغط شعبي متواصل لإنهاء هذه الحالة الشائنة.