يشعر المرء في كثير من الأحيان أن الصمت هو علاج ودواء فعال لكثير من القضايا التي نجبر ان نكون بداخلها, بعضنا يغتر بمكونات شخصيته ويدخل في صراع إثبات أحقية وجهة نظره، وأنه هو على صواب والآخرين في ظلال, لهذا يجد نفسه في دوامة إثبات هذا الصواب ليبقى في مقدمة المتحدثين وينتظره الأخرون ويكون هو من يأخذ زمام المبادرة, عودة هذا النوع من الأشخاص للصفاء والبقاء في زوايا الهدوء النفسي شبه مستحيلة لقناعته انه اصبح واجهة العشيرة والعائلة.
في المقابل يجد النوع الأخر الذي اختار أن يكون سبيله الصمت في معالجة ما يعرض عليه من قضايا ومشاكل أن هذا العلاج هو مطلب وضرورة ملحة تستدعي اتباعها وخاصة في هذا الزمان, الذي أصبح الطفل مفوها بالحديث العبثي قبل الكبير والمتعلم, أشخاص كانت لخبرتهم وحسن تمعنهم بمجريات طرح القضايا ومناقشتها والتوسع في تناولها من قبل المعني وغير المعني، استطاع هذا النوع من البشر أن يستفيد من حدية الأخرين في فرض آرائهم ومعتقداتهم وقناعاتهم, لهذا يكتشف من اختار الصمت أن هؤلاء رغم ضجيجهم وتعنتهم نهايتهم مؤلمة لهم ولغيرهم, هذا التصور الخاطئ من قبل أصحاب الضجيج المفعم بالصراخ جعلهم أصحاب نظرية يستفاد منها من أدرك أن السبيل لهدوء النفس هو الابتعاد والبحث عن أماكن تتسم بالصفاء والنقاء وميزتها الصمت.
كأن البحث عن نوعية مميزة من البشر تحببها النفس البشرية أصبح نادرا بعدما خيم على حياتنا اصحاب الشخصيات العملاقة بكل شيء, بالصوت المرتفع بالكبرياء الزائف والتعنت والتعصب, نبحث عن اصحاب العقول النيرة لنجالسها ونخاطبها ونستمع منها, تجد بعض الناس نادرا أن ينطق بكلمة وعندما ينطقها تغني عن ألف كتاب وأسطورة, هؤلاء ابتعدوا عنا واستقروا في أماكن لا يصل لها إلا من بنفسه شوق لهم.
نزداد سوءا في سيرنا بهذه الحياة، نقترب من ملوثات هذا العصر وأهمها الصخب الملازم لشخـصياتنا، لم نعد مثل من سبقونا في حديثهم حكمة وفي صمتهم بلاغة الفلاسفة وفي نصحهم دخول للجنة, تجد هؤلاء في رفعة الحــضور والغياب, غيابهم حضور وصمتهم رسالة للحضور, لم نعد نجدهم واختفوا بعدما فسحنا المجال لصغار العقول وأصحاب الصوت الملوث بمتطلبات هذه الأيام, تمدد هؤلاء يجبرنا أن ننسحب لنلوذ بصمتنا في أرض هي تسمع لنا ونتحدث لها.