في مؤتمره الصحافي الأخير قبل أيام، أوضح رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أنه استعاد زمام الأمور وأنه صاحب القول الفصل في ائتلافه الحكومي، وذلك بعد احتجاجات ضخمة شهدها الشارع الإسرائيلي ضد خطة التعديلات القضائية، قادها شخصان هما ياريف ليفين (وزير القضاء – الليكود)، وسيمحا روتمان (رئيس لجنة القضاء البرلمانية – من حزب "الصهيونية الدينية")، وقد انعكس ذلك في هبوط حاد في قوة أحزاب الائتلاف الحكومي، وخسارته الأغلبية؛ في مقابل صعود قوة حزب بيني غانتس، ليصبح الأكثر أهليةً لتولي رئاسة الحكومة بنظر الإسرائيليين، وفق العديد من استطلاعات الرأي العام.
وعودةُ تصدُّر نتنياهو المشهد، جاءت بعد تصريحات وسلوكيات تسببت بأضرار لإسرائيل خارجيًا وداخليًا، من تصريحات سموتريتش ونكرانه لوجود شعب فلسطيني، ورفض أي مسؤول أميركي لقاءه خلال زيارته للولايات المتحدة، مرورًا بدعم وزراء بالائتلاف لإحراق قرية حوارة، وصولا لدعم بن غفير لذبح القرابين في باحات المسجد الأقصى. ولا يخفى على أحد أنه خلال شهور معدودة، تراجعت صورة إسرائيل دوليًا، بالإضافة إلى المخاطر الاقتصادية التي تحيط بها دوليًا، نتيجة خطة التعديلات القضائية.
وتزامنت عودة نتنياهو لتصدّر المشهد مع التصعيد الأخير، وإطلاق قذائف من غزة ولبنان وسورية في الأسبوع الأخير، الذي انعكس في استطلاعات الرأي سلبيًا على اليمين الحاكم، وعلى نتنياهو شخصيًا، في ظلّ إدراك أحزاب الائتلاف الحاكم، بأن نتنياهو هو الشخص الوحيد القادر على توفير الأغلبية لهذه الأحزاب لتولي الحكم، فلا منافس جديًّا له، قادر على توفير الأغلبية لليمين الحاكم؛ لا ليفين ولا روتمان، وبالتأكيد لا سموتريتش ولا بن غفير.
وحدة الساحات وموسم رمضان
منذ رمضان عام 2021، تحاول فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة فرض معادلة توازن ردع في ما يتعلق بالمسجد الأقصى، وأن أي اعتداء على المصلين والمعتكفين في المسجد خلال شهر رمضان، سيوازيه إطلاق قذائف من قطاع غزة أساسًا. وقد حصل ذلك في أيار/ مايو 2021، إذ أطلقت فصائل المقاومة قذيفة صاروخية باتجاه القدس، إضافة إلى عدد محدود من القذائف من الأراضي اللبنانية، وشنّ الاحتلال عدوانا على القطاع، وامتدّت المواجهات إلى المدن الساحلية والبلدات الفلسطينية في الداخل.
قبل أيام، تكررت محاولة فرض هذه المعادلة، بعد انتشار مقاطع مصورة من اعتداءات أفراد شرطة الاحتلال على المعتكفين في المصلى القبلي في المسجد الأقصى، إذ أُطلقت القذائف على التوالي من غزة، ثم من جنوبي لبنان، ثم سورية. وردّ الاحتلال على ذلك باستهداف عدة مواقع، قال إنها تابعة لحركة حماس في غزة ولبنان، ومواقع أخرى في سورية، بعضها تابع للنظام، في إطار رده على إطلاق مسيرة إيرانية باتجاه الجولان المحتل، قبل ذلك بأيام.
وتضع فصائل المقاومة الرد على اعتداءات الأقصى في إطار ما تسميه وحدة الساحات، وهو ما تسعى إسرائيل إلى كسره ورفض التعامل مع هذه الوحدة، وذلك ما قد يفسر الرد المضبوط إسرائيليا، بأن الجيش الإسرائيلي لا يسعى للانجرار لمواجهة بحسب توقيت الفصائل، ولا لمواجهة في عدة جبهات.
وليس مستجدًّا الرفض الإسرائيلي بالتعامل مع الفصائل الفلسطينية على أنها وحدة واحدة، فهي رفضت أولا الاعتراف بالفلسطينيين كشعب واحد، ورفضت الاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وترفض الآن الانخراط في معادلة "وحدة الساحات"، وهذا منطق استعماري معروف.
لكن هل تحققت معادلة الردع في المسجد الأقصى؟ استمرت اقتحامات المستوطنين، بل زادت بعد إطلاق القذائف خلال عيد الفصح اليهودي، وأعلن نتنياهو لاحقًا تعليقها في العشر الأواخر من رمضان، إذ سربت إسرائيل أكثر من مرة أن هذا كان ضمن التفاهمات الأمنية في لقاءي العقبة وشرم الشيخ، بمنع الاعتكاف في المسجد خلال رمضان، لإتاحة اقتحامات المستوطنين، ووقف الاقتحامات وحصر الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، تزامنًا مع انتهاء فترة عيد الفصح اليهودي.
لا يتعلق السؤال بالردع المتبادل فقط، فقد يتحقق هذه المرة ولا يتحقق المرة القادمة، لكن اللافت هو تحوُّل ذلك إلى معادلة محصورة في شهر رمضان كما ترى إسرائيل، وحصرها فقط بموضوع المسجد الأقصى بمعزل عن القدس، التي يتعرض أهلها إلى تطهير عرقي يومي، وتوسع استيطاني منهجي في أنحاء المدينة، دون أن يقابلها أي فعل فلسطيني جدي وملموس يحفظ "الوضع القائم" تاريخيًا في القدس، على غرار المطالبة بحفظ "الوضع القائم" تاريخيًا في المسجد الأقصى.
يرى الإسرائيليون أن فصائل المقاومة، ومعها إيران وحزب الله، تسعى في النهاية إلى التصعيد في الضفة الغربية وإطلاق انتفاضة ثالثة فيها، في ظل تدهور مكانة السلطة الفلسطينية، والتحولات المحتملة في قيادتها، وتدرك كذلك أن هذه الفصائل وكذلك حلفاؤها، لا يسعون حاليًا إلى فتح مواجهة شاملة في عدة ساحات، على الرغم من تراجع أو تآكل الردع الإسرائيلي في نظر هذه الفصائل، نتيجة الانقسام الداخلي الإسرائيلي على خطة التعديلات القضائية، وتهديد مئات من قوات الاحتياط بالعصيان والتمرّد. لكن التصعيد الحاصل حاليا في الضفة هو من جهة قوات الاحتلال، التي أطلقت منذ نحو عام، عملية عسكرية سمّتها "كاسر الأمواج"، وتقتحم يوميًا مدن ومخيمات شمالي الضفة الغربية تحديدًا، وتقتل وتعتقل وتحاول استئصال أي بؤرة مقاومة، في مقابل عمليات رد فعل على الاقتحامات والقتل، مثل عمليات إطلاق نار تستهدف المستوطنين كما حصل في حوارة عدة مرات، وفي الأغوار كذلك بعد اقتحامات دموية للاحتلال. هذا هو الواقع في الضفة الغربية، وبالنسبة لإسرائيل، يشكل ذلك أكثر خطورة من إطلاق قذائف من لبنان أو سورية أو غزة، خصوصًا بسبب إمكانية تسلُّل فلسطينيين من الضفة لتنفيذ عمليات في العمق الإسرائيلي.
لذلك ترى أن هذه القذائف من الشمال والجنوب هي عملية موسمية تنحصر في شهر واحد في السنة، شهر رمضان، لكن الصراع في الضفة يتواصل على مدار الساعة والسنة.
أخيرًا في هذا السياق، فإن المكانة الروحية والدينية والوجدانية للمسجد الأقصى هي عامل مهم وأساسي في توحيد الفلسطينيين واستنفارهم، لكن إذا كانت فلسطين بلا القدس كالجسد بلا روح، فكذلك المسجد الأقصى بلا القدس، سيصبح كالروح بلا جسد.
وليد دقة ووعيه الموازي
كان من المفترض أن يكون الأسير وليد دقة هذه الأيام بيننا، حرًّا طليقًا، لكن الاحتلال سعى للانتقام منه بفرض حكم بالسجن عليه لعامين إضافيين، بحجة إدخاله هواتف خليوية للأسرى. في حالات مشابهة، اكتفت سلطة السجون بفرض عقوبات "تأديبية" على الأسرى مثل العزل الانفرادي لعدة أيام، أو ما شابه. ولكن في حالة وليد كانت العقوبة استثنائية وزادت على محكوميته (37 عامًا) عامين إضافيين، وذلك بالرغم من وضعه الصحي المتردي، وإصابته بالسرطان.
ليس تشديد العقوبة على وليد مجرّد انتقام من أسير فلسطيني بسبب إدخال هاتف نقال للسجن، بل لمكانته السياسية والثقافية والفكرية والأخلاقية في وعي شريحة واسعة من الشباب، الذين استطاع أن يأخذهم إلى زمن مواز آخر للزمن الفلسطيني والعربي، ومن ثم إلى وعي وطني ووجودي إنساني رفيع، موازن لحالة اللاوعي واللاوجدان والنرجسية، وفي زمن الاستسهال والابتذال، وهو الذي حوصر بين الجدران طيلة أربعة عقود تقريبًا.
قد يكون وليد في هذه اللحظات في حالة "اللاوعي" بسبب وجوده في العناية الفائقة، وبتأثير من الأدوية، بعداستئصال جزء كبير من رئته اليمنى قبل أيام، لكن لا شكّ في أن وجدانه معنا... في وعي ووجدان الكثيرين.
يبقى المطلوب الآن، هو تحرير وليد وإنقاذ حياته فورًا.