لا تغيب مسيرة اللجوء والرعب من بال اختي و ذاكرتها ابدا. روتها مرارا و تكرارا و لا تزال ترويها و بأدق تفاصيلها زمنا و مكانا و احداثا و ناسا كأنها تمتلك و بالفطرة ذاكرة بصرية حادة ثاقبة واخرى سمعية دقيقة مرهفة، فلم يفلت منها اي من نظرات الجزع و الحزن او انين الفقد والوجع والجوع او انكسار الخاطر و الروح الذي عاشته و رأته او سمعته او احست به او بعيون الناس من حولها في مسيرة اللجوء و التشرد للنجاة بأرواحهم من قصف عصابات الصهاينة لبلدة ترشيحا (عروس الجليل).
تقول اختي: ( و الحكي مش متل الشوف) كما تردد دائما، انه قبل غروب شمس يوم الخميس ٢٨/١٠ حلقت طائرات العدو في سماء بلدتنا و القت مناشير تدعو الناس إلى مغادرة ترشيحا والا تعرضوا للقتل، ثم بدأت بالقاء القنابل والقذائف في مختلف الجهات. لم يغادر احد و أجمعوا أن يحتموا بالبيوت الأكثر تحصينا في ظنهم، و توزعت اكثر عائلات ترشيحا للاختباء في قبوتين واحدة لبيت الكبة حيث اختبأ أهلي، و قبوة أخرى لبيت عبد عمر، اتقاء للقذائف و ظنا منهم أن القباب أكثر امنا. و في تلك الليلة ، ٢٨/ ١٠ استمر دوي القصف حتى استفاقوا صباحا على اصوات طائرات تلقي القنابل و القازانات كما كانوا يسمونها في مواقع مختلفة من البلدة ، من بينها قذيفة أصابت بيت عبد عمر حيث احتمى الناس في (القبوة) و بيت ناصر حيدر و بيوت الهواري إصابات مباشرة ،و كانت مجزرة رهيبة اصابت الحجر والبشر ودمرت بيوتا كثيرة من بينها جزءا من بيتنا و مستودع محصول الدخان لمدة عامين كاملين و الجاهز لتسليمه بالجملة لشركة الدخان ( قرمان: ديك وسلطي في حيفا )، الذي لم يتم في وقته بسبب النكبة و احتلال البلاد. ولم يرض ابي ان يبيعه بالمفرق. في تلك المجزرة استشهد من اهالي ترشيحا ما يقارب ٧٠ فردا من الرجال والنساء والأطفال بالاضافة الى من لم يتمكنوا من انتشالهم من تحت الردم . و تقول اختي أنها رأت بأم عينها ام فايز عمر قريبتنا وهي تنشل جثة حفيدتها من تحت الركام مشوهة الرأس، و قداستشهدت عائلة الطفلة بأكملها تحت الردم . وأصيب العديد من اهل البلد باعطاب و تشوهات وبتر للأعضاء مثل السيدة فاطمة الهواري التي بُترت ساقاها، و التي اعتذر لها الطيار (ايتان ) الذي القى القذيفة في تلك الليلة المشؤومة ،(اعتذر في أواخر عمره) ،كل هذا على سبيل المثال لا الحصر .
استمر صوت الرصاص والقذائف يدوي فوق رؤوسهم عندها دب الرعب في القلوب، و قبيل ظهر ذلك النهار أخذ الناس يجمعون اولادهم بوعي او دون وعي و يغادرون البلدة باتجاه الشمال . في ذلك الوقت ،كان والدي مسافرا و في بيروت قبل الهجوم على ترشيحا ببضعة أيام، و كانت امي المكتوية بنار استشهاد شقيقها، فهمي الحفيظ (١٨سنة) في احدى غارات الصهاينة على البلد قبل اقل من شهرين من تلك الليلة، ومن يومها لم تذكر امي اسم شقيقها الّا بكلمة ( المِسعد) حزنا عليه، فلملمت امي اخوتي جميعا و التحقت بالعائلات الهاربة اللاهثة وراء بعضها البعض مشيا على الاقدام و كلب الدار يرافقهم، باتجاه الأرض الوعرة الشائكة بعيدا عن الطرقات العامة المكشوفة وحيث تتواجد عصابات الصهاينة و تلاحق أهل البلد قتلا و تنكيلا . وفي الأرض الوعرة تابعوا الجري و دوي الطائرات في اذانهم يزيد من خوفهم و يحثهم على الإسراع و الابتعاد رغم الانهاك و الجوع والعطش. ثم سمعوا هدير طائرات قيل انها تقصف قرية سحماتا و اختبأوا بين الشوك الذى انغرس بثياهم و جلدهم و بقيوا في مخبئهم حتى اختفى دوي الطائرات، ليتابعوا مسيرة الخوف و ينزلوا في منحدر كالوادي ثم صعودا إلى تلة او رأس جبل صغير في منطقة تدعى (الزويّة) حيث وجدوا بعض العرب او البدو و بئرا شربوا منه ولا طعام معهم ليأكلوا. ثم تابعوا المشي ،يتناوبون على حمل الأطفال و جر الصغار و انفسهم إلى أن وصلوا مع غروب ذلك النهار إلى بلدة تدعى (فسوطة) قريبا من الناقورة حيث نصحهم بعض سكانها بعدم التحرك إلى أن يحل الليل حتى لا تكشفهم عصابات الصهاينة. و استمروا مشيا طوال الليل و بلا نوم إلى أن وصلوا إلى (عيثا الشعب) داخل الحدود اللبنانية في فجر اليوم التالي لمغادرتهم ترشيحا، افواجا افواجا من بلدات و قرى الجليل بأكمله، و حطوا الرحال عند بيادر القمح.
اتجه الناس بعدها بشكل مجموعات بحثا عن دكاكين ليشتروا الخبز و بعض الطعام فلم يجدوا دكاكين قريبة منهم، وقد بقيت امي مع اخوتي الصغار و اصطحبت جدتي اختي و اخي الاكبر مع جموع اخرى بحثا عن دكان يشتروا منه فلم يهتدوا، ثم دقت جدتي باب بيت على الطريق، ففتح لها رجل كبير السن تجلس زوجته على طراحة داخل الغرفة، وسألته أن يدلها على دكان فأجاب أن ليس من دكان قريب في هذا الحي، فطلبت أن يبيعها من خبزهم ، فرفضت زوجته ولكن الرجل استدرك و رأف بهم و قال لجدتي انتظري و احضر لها بعض ارغفة الصاج دون ان يأخذ ثمنهم. اخذتهم جدتي شاكرة له واتجهت إلى البيدر، وكان قريب لنا يدعى (احمد كيوان ) مع عائلته قد احضر معه ربطة( قمر الدين ) بلّوها في الماء في صينية و جلسوا جميعا يغمسون الخبز بها و يأكلون.
ناموا ليلتهم الاولى في العراء على البيادر في طقس خريفي بارد.في نهاية شهر ١٠ و كلبنا لا يفارقهم . في صباح اليوم التالي تحاملوا على تعبهم و ذلهم و انكسارهم واكملوا السير حتى وصلوا بلدة قانا عند الظهر حيث تتوفر الدكاكين فاشتروا بعض الطعام و اسكتوا جوعهم.
اثناء ذلك و بعد شيوع خبرسقوط ترشيحا في ٣٠ /١٠ و المجزرة و تهجير الناس وكان يقال: "ان سقطت ترشيحا سقط الجليل كله" كان والدي في ذلك الوقت قد غادر بيروت باتجاه الجنوب بحثا عن أهلي، وقد ذهب اولا إلى رميش و بنت جبيل ثم عيثا إلى ان وصل قانا و التقى بهم وببيت عمي و جميع الأقارب وا هل البلد المتواجدين في قانا. عندها احضر والدي سيارة أجرة لينتقلوا بها الى برج البراجنة و يلتحقوا ببعض الاقارب الذين كانوا قد وصلوا إليها من قبل، و ركب معهم عائلة يوسف القاضي ( ابو فايز) زوجته من اقاربنا. كانت السيارة تسير و كلبنا يركض و ينبح خلفها و اخوتي يبكون و يصرخون يريدون اصطحابه معهم ، ( عندما تسللت جدتي مع عمة ابي فاطمةالبدوي ، ام منيب المعتصم إلى ترشيحا لتفقد الدار وإحضار طعام و ما يمكن احضاره و جدت الكلب عائدا من قانا الى ترشيحا و مقتولا أمام الدار ) وما أن وصلت السيارة بهم إلى مدينة صور و في الشارع العام اوقفها حاجز للدرك اللبناني يجبر اللاجئين جميعا المتجهين شمال صور إلى ( صيدا و بيروت ) اجبروهم على النزول من السيارات ثم صعود (ترين) قطار قديم متهالك متجها إلى سوريا. نقلهم و جمع غفير من اللاجئين إلى مدينة (حماة) و آخرين إلى حلب.
في حماة، أقاموا في الجامع الكبير الذي امتلأ بعائلات من مختلف قرى الجليل و. سارع أهل حماة بإحضار الفراش و الأغطية و الطعام طوال اسبوعين كاملين خلال إقامتهم بالجامع إلى أن تم توزيعهم إلى قرى و ضيع أخرى؛ و كان نصيب أهلي في ضيعة تسمى (عقارب) قريبا من السالمية وكان أهل الضيعة كرماء طيبين، تسارعوا في جلب المساعدات كالفراش و الاغطية و الطعام والطحين و بعض الملابس الشتوية فالطقس قارس،شديد البرودة شتاء ، و الضيعة نائية و بدائية، فلم يرغب اخوتي بالبقاء فيها ولم يرتح بها أهلي، وابي معتاد على مدينة بيروت التي كان يحبها و يتردد اليها مرارا (سائحا) قبل النكبة، و عندما مرض اخي بعد مرور ما يقارب ثلاثة او أربعة أشهر من إقامتهم في ضيعة عقارب، قرر ابي ان ينتقل الى بيروت لعلاجه و الاقامة فيها ولم تكن بعد تعقيدات السفر والانتقال تقيد تحركهم او انتقالهم. و هكذا كان، استأجر والدي سيارة وانتقلوا بها الى بيروت ليحطوا في برج البراجنة قرب جامع بيت العرب و كان جدي لأبي المقيم في بيونس ايرس، في الارجنتين قد أرسل بعض النقود لأبي و عمتي و لأخته فاطمة، عمة والدي و لابن اخ جدي عمي احمد، فاستأجر اهلي شقة مكونة من غرفة واحدة و مطبخ وحمام ، إلى أن أقيم مخيم برج البراجنة و بدأت العائلات تنتقل إليه و انتقل أهلي معهم لتبدأ رحلة قهر ومعاناة بأشكال جديدة عجيبة لنكبة مستمرة،
و لا زالت اختي الكبرى نظمية،( ام د.عدنان) متعها الله بالصحة و أمد بعمرها ذاكرة تروي. والحكي مش متل الشوف.