صحيح أن البابا فرنسيس الثاني، بابا الفاتيكان، كان قد سبق بطرح مبادرة في ذات الاتجاه، ولكن سوء الحظ حالف مبادرة الرجل، فلم تبرح مكانها في مكتبه البابوي، وبقيت هناك تندب حظها، وبقي العالم من ورائها يعاني ما يعانيه منذ اشتعلت نار هذه الحرب قبل أكثر من سنة.
وكان البابا يأمل في أن يكون صوته أقوم من صوت المدفع، وكان صوته هو صوت العقل الذي يبحث له عن مكان في عالمنا فلا يكاد يقع على موطئ قدم، وكان أمله أن تدب الحياة في المبادرة، وأن تقوم وتمشي على قدمين، لولا أن هذا الأمر لم يكن كله في يده.
وقد راح البابا يطوي أحزانه، ثم راح يصلي ويدعو الآخرين إلى الصلاة، ولسان حاله يقول: «صلوا من أجل الذين تحصدهم الحرب في طريقها وهي لا تبالي، ومن أجل الذين تحولوا إلى وقود لحرب فاجأتهم بغير أن تكون لهم فيها ناقة ولا جمل».
ومن بعدها عرفنا مبادرة أخرى طرحها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد كان ذلك في آخر السنة الماضية، وكانت الحرب وقتها في الشهر العاشر من عمرها، وكان صاحب المبادرة يأمل ألا تتم الحرب عامها الأول، وأن ينصت الطرف الآخر إلى مبادرته، ولكن طواها ما طوى مبادرة البابا، وتوارى الحديث عنها في غمرة الدماء التي تسيل على الجانبين.
وإذا كانت المبادرة الصينية هي الثالثة، فالأمل لا يزال يتعلق فيها، والمصريون يقولون في أمثالهم الشعبية أن «التالتة تابتة»، والمعنى أن المرء إذا حاول مرة، ثم حاول مرةً ثانية، فالثالثة تحقق في الغالب ما لم تحققه الأولى ولا الثانية، وهذا المعنى يدعونا إلى أن نظل نحاول ولا نيأس، ولا فرق في المحاولة من هذا النوع بين أن تأتي من فرد أو أن تأتي من دولة.
والمشكلة في المبادرات الثلاث أن كل واحدة فيها كانت تحظى برضا طرف دون طرف، وكانت تصادف باباً مفتوحاً أو موارباً على جانب، وكانت على الجانب الآخر تصادف باباً مغلقاً وموصداً، وهذا تقريباً ما تجده في طريقها مبادرة الرئيس الصيني شي جينبينغ، الذي يتخيل أن في إمكانه أن يصل إلى ما لم يصل إليه فرنسيس الأول ولا بوتين، ولكن الأمر ليس كله في يده أيضاً.
إن موسكو تقول إنها تدرس مبادرة الصينيين، وكييف تتطلع إليها في تحفظ، وما بين الدراسة والتحفظ يهلك الناس في البلدين، ويهلك ناس آخرون في بلاد أخرى بفعل أثر الحرب الواصل إلى هناك.
وكان مما يؤلم أن تخفق المبادرة بعد المبادرة على مدى السنة، بينما العالم متفرغ لإحصاء الأيام والأسابيع والشهور التي انقضت على بدء الحرب، وقد بدا العالم وهو يستعرض الأيام والأسابيع والشهور في عُمر الحرب، وكأنه يحصي حبات مسبحة تجري حباتها حبةً من وراء حبة في سهولة وسلاسة، وينسى هذا العالم نفسه المنخرط في عملية العد والإحصاء، أن إحصاءه الذي يشغله له وجه آخر يستهلك أحياءً كثيرين من البشر يتحولون إلى موتى في ميادين القتال.
ولكنك تتلفت حولك فلا ترى أشد من الناقلة صافر دليلاً على عجز العالم عن فعل شيء، وتتساءل بينك وبين نفسك بالتأكيد عما إذا كان العالم الذي يعجز عن تحريك ناقلة مثل صافر من مكانها، يستطيع هو نفسه أن يطفئ نار هذه الحرب!
هذه الناقلة لها قصة لا تعرفها ناقلة غيرها، لأنها راسية في البحر الأحمر أمام ميناء الحديدة من سنين، ولأنها في مكانها لم تغادره منذ 2014، ولأنها تحمل على ظهرها مليوناً و100 ألف برميل من النفط، ولأن هذه الكمية معرضة للتسرب في عرض البحر في أي لحظة.
ولا يرتبط وجودها في غرب اليمن بشيء، إلا بدخول الجماعة الحوثية العاصمة صنعاء في ذلك العام، وانقلابها على الحكومة الشرعية في البلاد.
تهالكت الناقلة في موقعها وتداعت، بينما العالم يتفرج عليها ولا يفعل أي شيء، ويعرف العالم أن هذه قنبلة في عرض البحر أكثر منها ناقلة، وأن تسرب البترول من داخلها إلى الماء سوف يعطل الملاحة في البحر، وسوف يصيب البيئة فيه كما لم يصبها خطر من قبل، وسوف يربك حركة التجارة بين الشمال وبين الجنوب، وسوف يقطع تواصل شمال الأرض مع جنوبها.
ومن كثرة ما ظهرت صورة الناقلة في الإعلام، لم يعد أحد يتوقف عندها، ولا عند صورتها الطولية الشهيرة، ولا عند الأخبار التي تشرح هذه المعضلة، وسقط موضوعها في فخ الاعتياد الذي يقتل أي شيء، ويحوله من موضوع له مضمون إلى ما يشبه الموضوع.
منذ 9 سنوات وهي رابضة بالقرب من الشاطئ، ومنذ 9 سنوات والعالم على اتساعه يتابعها من بعيد أو من قريب ويقدم الوعود، ومنذ 9 سنوات والملف على مكتب الأمين العام السابق للأمم المتحدة ثم الحالي، ومنذ 9 سنوات وهي شاهد مادي لا يكذب على عجز عالمنا.
وتستطيع أن تضع الحرب الروسية على أوكرانيا في مواجهة الناقلة صافر، ثم تستطيع أن تتساءل عما إذا كان العالم العاجز هنا في البحر الأحمر، سوف يكون قادراً هناك على الحدود بين روسيا وبين أوكرانيا حيث تجري وتطارد ضحاياها!
لقد طال الزمان بالناقلة حتى نسيها الناس، ربما لأن خطرها لا يزال خطراً كامناً ولم يتوزع حولها، ولم يصل إلى درجة يهدد فيها أمن العالم وحركته، ولكن خطر الحرب في الحالة الروسية الأوكرانية طال كل بيت، وتجسد على كل مائدة أمام كل أسرة، والذين لم يموتوا بأثر الحرب المباشر في ميدانها، ماتوا من الخوف منها ومن مداها في كل مكان.
وربما يأتي يوم يقام فيه تمثال في المكان على البحر الأحمر، ويظل من بعد ذلك علامة على عجز العالم، ليس فقط عن ردع جماعة حوثية تعربد في أرض سبأ، ولكن عن إنقاذ مياه البحر وخطوطه الملاحية من خطر الناقلة التي تحولت مع الوقت إلى عنوان لكثير من المعاني.
مكان الناقلة صافر معروف، وخطرها ماثل أمام العيون، وصورتها أصبحت من معالم المكان، والذين تابعوها في بدايتها زهقوا فتوقفوا عن المتابعة، وتكلفة محاصرة خطرها باهظة لو تسربت حمولتها في الماء، والجماعة التي تبتز بها المجتمع الدولي معروفة العنوان أيضاً، ومواردها ومصادر سلاحها ليست خافية على أحد، ولكن غير المعروف هو هذا الصبر طويل المدى الذي يتعامل به العالم معها.
والحديث عن جهد أممي لنقل بترول الناقلة إلى ناقلة جديدة يتجدد من وقت إلى وقت، ولكن الكلام يفقد معناه ويتفرغ من محتواه، إذا ظل يتردد على الأسماع دون فعل يوازيه، ولا شيء يشير إلى جديد في الموضوع الذي ينتقل من عجز إلى عجز آخر.
العالم الذي قضى ما يقرب من عقد من الزمان يتفرج على الناقلة صافر، لا يجد مشكلة في الفرجة على حرب تجاوزت عامها الأول، والعالم الذي لا يرى في الناقلة ما ينال من أمنه وسلامة خطوط اتصالاته، لا يرى في الحرب ما يوجب وقفها بأي طريقة.