هم في الواقع متسللون ومغتصبون، جاءوا لغرض آخر غير الزيارة، وإنما لسرقة بيتك وماضيك وحاضرك ووطنك، واقتلاعك من جذورك، وتحويلك إلى كومة قش تلعب بها رياح السياسة والسوق والممكن والمستحيل.
وتكررت زيارات الغرباء إلى منزل الرجل الهرم، في أجواء اختفى فيها الجيران من الطرقات، فلا جار فتح نافذته، أصبح وحيدا و إذا استغاث فلن يغيثه أحد، بينما ابنه الوحيد مسافر خارج البلاد،.
وفي كل مرة، يتكاثر الغرباء، و يعلنون انهم لا يشربون القهوة، ويقومون باستفزاز الرجل.
وشيئاً فشيئاً يدرك الرجل الطيب في المسرحية ذات الفصل الواحد التي كتبها الراحل الرائع محمود دياب (1932-1983، أن هؤلاء لا يمكن ان يكونوا أصدقاء، فقد سخروا من قوله أنه يمتلك هذا البيت الذي توارثه من أجداده جيلاً بعد جيل، وأنه يعرف كل زواياه، وتنتشر ذكرياته فيه، وانه يملك أوراقاً تبثت ملكيته له، بل ويخبروه أن اوراق ملكته للبيت وغيرها، تبخرت من مصلحة الأملاك.. ولا وجود لها.
عندها يطلب من زوجته ن تحضر صندوق أوراقه، قائلا: لا يهم.. لدي نسخة من اوراق ملكيتي لهذا البيت وسأطلعكم عليها. وحين تحضر الزوجة الصندوق يمزقون كل ما فيه، ليس أوراق الملكية فحسب، ولكن كل تاريخه الذي فيه: موضوع إنشاء حين كان في المدرسة، اشعاره، صورته طفلا مع والدته، شهادة ميلاد ابنه.. وكل شيء.. كل شيء، كأنهم يريدون إلغاء هويته وشطب وجوده من على هذه الأرض.
وخلال ذلك يعلو صراخه معلنا رفضه تمزيق أوراقه، ويسقط ارضاً.. فيما تتناثر اوراق الملكية وأوراق حياته الممزقة فوقه، ويصرخ بأعلى صوته مستنكرا : تريدون انتزاعي من البيت ، انتزاع البيت مني، طمس الحقيقة ، عبثا تحاولون .
حين ينهض من البؤس واليأس، يقول لزوجته: لا تبكي.. لأن بكائك يجعلني احس انني انتهيت، أنا واقف مثل الجبل، أنا عارف انهم كان ممكن يوصلوا للاوراق هذه.. ومهما عادوا او فعلوا سأبقى واقفاً مثل الجبل.
ويقترب من الشجرة الباسقة ويعلن لزوجته: "شجرتنا مثلما هي، جذورها نازلة أميال في الأرض، ومش ممكن ان الجذور تتقطع".
ويتابع: " وداخل البيت؛ في الممرات وعلى الحيطان، خربشاتي وانا طفل يتعلم المشي، على كل حيطة مستند لم يتمزق، اول حروف تعلمت اكتبها ما زالت في مكانها، وهذه كلها مستندات باقية، وكلها أدلة في صالحنا، وإذا لم تكن هذه الأدلة كافية للمحكمة، فهي كافية لنا، نحن نعرف كيف نحافظ على بيتنا، نحن سنتحصن في البيت، أنا سامسك سكيناً وانت ستمسكين ساطوراً، وندافع عن بيتنا".
ويقرر ان يبرق لأبنه الغائب بان يعود.. معه بندقيته.
نعم.. فقد اختار الرجل الهرم وزوجته.. المقاومة، وهي الطريق الوحيد في حال كهذه.
المسرحية التي قدمت في ستينيات القرن المنصرم، وما تزال تقدم إلى الآن في شتى أنحاء الوطن العربي، مع إعادة استكشاف قدرات النص وقراءته بما يتلائم مع الواقع الذي نعيشه في فلسطين وغيرها، كون المسرحية تناولت قضية اغتصاب الأرض وإمتهان إنسانية الانسان بدون وجه حق من منطلق القوة والافتراء والاستبداد، وهو ما نشهده واضحاً في عصرنا هذا.
نصيحة: لا تعرض القهوة أبداً.. على غرباء من هذا النوع.