كنت أخافُ أن أموت من أجل دمع أمي، ولكني عشت أربعين عاماً في ظلمة السجن، وخرجتُ ولم أجد ما خفتُ عليه، وما حرصتُ على حياتي من أجله. لم أجد دمع أمي، لم أجد رائحتها، ولا تجاعيد وجهها، ولا تشقّق باطنَي كفَّيها، ولا شيب شعرها، ولا أي شيء يروي حنيني وحنينها، ويخبرني كم انتظرتني وكم تلهّفت على لقائي، وكم اشتاقت لكي تتلمّسني، حتى بعد أن شاب شعر رأسي وسرق السجن زهرة عمري
أخلفت أمي الوعد، وهي التي لم تُخلف موعداً، فقد زارتني أكثر من سبعمائة زيارة في السجن. وفي كل زيارةٍ كانت تخوض حرباً لكي تصل إليّ، هي في الحقيقة لا تصل إليّ، هي تراني من خلال السياج، وتتلمّس أطراف أصابعي وتتأمل تقاسيم وجهي وتقارن وهنها بسني عمري التي تجري وتخفي حزنها، فيما يلهث لسانها بالدعاء لي ويطول بها الأمل وتقسم أن تستقبلني على باب الدار بالورد والريحان والزغاريد، ولكني اليوم عدتُ إلى الدار فلم أجد حتى دمعَها الذي خفتُ منه وعليه
عدتُ إلى الدار، يا أمي، وأنت تعرفين ماذا تعني الدار. وخلتك سمعتُ خشخشة مفاتيحي التي دارت بالباب، فابتهج قلبك وطرب وغنّى. ولكني، في الحقيقة، يا أمي، تقدّمتُ خطوةً، ورجعت خطوتين، فأنت لم تكوني تنتظرين مع المنتظرين، لا على العتبة في الخارج، وتطلقين زغرودة تصل إلى عنان السماء، وتدوّي حتى تُصمّ أذني السجّان. ولا أنت في الداخل، حيث أتوقع أن تكون قد ثقلت خطوتك، ووهن عظمك فلذت بسريرك، سريرك الذي طالما تقافزتُ عليه وأنا صغير، ولطّختُه بما سقط من يدي من طعام، واستقبلت ذلك فرحة سعيدة، فأنا أول الأبناء وفرحة العمر الأولى وعهدك البكر بالأمومة التي جاهدت بها سنوات عشرين ونيف، حتى غيّبني السجن ثم جاهدتُ بها أربعين عاماً إلا شهوراً قليلة. خذلك العمر والمرض والقدر، فوقعتِ قبل أن نصل إلى نهاية الطريق. وقعتِ، يا أمي، ولم أقع، وقرّرت أن أعود إلى الدار فيما أعرف جيداً أن السماء الآن تضجّ بصوت زغاريدك، وأنك قد نظمت أغنيات وأناشيد لهذا اليوم بالذات، وأعرف أن أهل السماء قد ردّدوها معك ومن أجلك
يا أمي، أنا العائد اليوم، يا عظيمة، يا أكثر الأمهات إجلالاً، يا أم الزعتر والزيتون، أنا العائد من خلف جدر الظلم وقهر الزنازين، فعودي، يا قوية، عودي، يا صبحية. أعرف، يا أمي، من قصصك وحواديت الموقد، حين كنّا صغاراً أن الموت يمنح الموتى الطيبين إجازة استثنائية. هكذا يعود الموتى في إجازة من أجل مناسبة هامة أو من أجل حبيبٍ لا يزال في الدنيا. ولذلك، أنا انتظرك. استيقظي وافتحي عينيك قليلاً وتعالي لنحتفل. هنا الاحتفال مختلف، ولا يشبه أي احتفالٍ يقيمه العالم الصامت على عمري الضائع وشبابي المهدور. هنا الاحتفال، يا أمي، ينتظرك ويليق بك. استميحي من صحبك المستأنسين عذراً، وأقبلي برائحة زعتر البلاد، وبرتقال القرية وطابونها. ورجائي، يا أمي، يا أيتها المنبثقة من إجازة قصيرة، أن تجدي بعض الوقت، لتخبزي لي عدة أرغفة من دقيق القمح فوق طابونك القائم المنتظر، الذي ينتظر إشارة منك لكي يشتعل حنيناً وشوقاً
يا أمي، يا أيتها الوفية التي لم تخلف موعداً حتى خذلها القدر، فارتكنت على جانب الطريق قبل شهور ثمانية من موعدنا المتفق عليه. يا أمي، إني أراك الآن حولي، وكنت أنوي أن أضع كفّي فوق عينيك العزيزتين اللامعتين الحنونتين. كنت مشفقاً على دمعهما، ولم أصدّق أنني سوف أعود لكي لا تبكي غيابي. ولم أكن أعرف أنني سأبكي غيابك، ولن يشفق على دمعي أحد. الغياب، يا أمي، هو غيابك. وكل الحضور لا يساوي حضورك ورائحتك ومبسمك وطهرك. وأخيراً، اعلمي أنني لم أكبر في السجن، ولكني كبرت يوم وفاتك. تأكّدي أنني بقيت طفلاً يرتع بين القضبان حتى جاء خبر وفاتك
أخلفت أمي الوعد، وهي التي لم تُخلف موعداً، فقد زارتني أكثر من سبعمائة زيارة في السجن. وفي كل زيارةٍ كانت تخوض حرباً لكي تصل إليّ، هي في الحقيقة لا تصل إليّ، هي تراني من خلال السياج، وتتلمّس أطراف أصابعي وتتأمل تقاسيم وجهي وتقارن وهنها بسني عمري التي تجري وتخفي حزنها، فيما يلهث لسانها بالدعاء لي ويطول بها الأمل وتقسم أن تستقبلني على باب الدار بالورد والريحان والزغاريد، ولكني اليوم عدتُ إلى الدار فلم أجد حتى دمعَها الذي خفتُ منه وعليه
عدتُ إلى الدار، يا أمي، وأنت تعرفين ماذا تعني الدار. وخلتك سمعتُ خشخشة مفاتيحي التي دارت بالباب، فابتهج قلبك وطرب وغنّى. ولكني، في الحقيقة، يا أمي، تقدّمتُ خطوةً، ورجعت خطوتين، فأنت لم تكوني تنتظرين مع المنتظرين، لا على العتبة في الخارج، وتطلقين زغرودة تصل إلى عنان السماء، وتدوّي حتى تُصمّ أذني السجّان. ولا أنت في الداخل، حيث أتوقع أن تكون قد ثقلت خطوتك، ووهن عظمك فلذت بسريرك، سريرك الذي طالما تقافزتُ عليه وأنا صغير، ولطّختُه بما سقط من يدي من طعام، واستقبلت ذلك فرحة سعيدة، فأنا أول الأبناء وفرحة العمر الأولى وعهدك البكر بالأمومة التي جاهدت بها سنوات عشرين ونيف، حتى غيّبني السجن ثم جاهدتُ بها أربعين عاماً إلا شهوراً قليلة. خذلك العمر والمرض والقدر، فوقعتِ قبل أن نصل إلى نهاية الطريق. وقعتِ، يا أمي، ولم أقع، وقرّرت أن أعود إلى الدار فيما أعرف جيداً أن السماء الآن تضجّ بصوت زغاريدك، وأنك قد نظمت أغنيات وأناشيد لهذا اليوم بالذات، وأعرف أن أهل السماء قد ردّدوها معك ومن أجلك
يا أمي، أنا العائد اليوم، يا عظيمة، يا أكثر الأمهات إجلالاً، يا أم الزعتر والزيتون، أنا العائد من خلف جدر الظلم وقهر الزنازين، فعودي، يا قوية، عودي، يا صبحية. أعرف، يا أمي، من قصصك وحواديت الموقد، حين كنّا صغاراً أن الموت يمنح الموتى الطيبين إجازة استثنائية. هكذا يعود الموتى في إجازة من أجل مناسبة هامة أو من أجل حبيبٍ لا يزال في الدنيا. ولذلك، أنا انتظرك. استيقظي وافتحي عينيك قليلاً وتعالي لنحتفل. هنا الاحتفال مختلف، ولا يشبه أي احتفالٍ يقيمه العالم الصامت على عمري الضائع وشبابي المهدور. هنا الاحتفال، يا أمي، ينتظرك ويليق بك. استميحي من صحبك المستأنسين عذراً، وأقبلي برائحة زعتر البلاد، وبرتقال القرية وطابونها. ورجائي، يا أمي، يا أيتها المنبثقة من إجازة قصيرة، أن تجدي بعض الوقت، لتخبزي لي عدة أرغفة من دقيق القمح فوق طابونك القائم المنتظر، الذي ينتظر إشارة منك لكي يشتعل حنيناً وشوقاً
يا أمي، يا أيتها الوفية التي لم تخلف موعداً حتى خذلها القدر، فارتكنت على جانب الطريق قبل شهور ثمانية من موعدنا المتفق عليه. يا أمي، إني أراك الآن حولي، وكنت أنوي أن أضع كفّي فوق عينيك العزيزتين اللامعتين الحنونتين. كنت مشفقاً على دمعهما، ولم أصدّق أنني سوف أعود لكي لا تبكي غيابي. ولم أكن أعرف أنني سأبكي غيابك، ولن يشفق على دمعي أحد. الغياب، يا أمي، هو غيابك. وكل الحضور لا يساوي حضورك ورائحتك ومبسمك وطهرك. وأخيراً، اعلمي أنني لم أكبر في السجن، ولكني كبرت يوم وفاتك. تأكّدي أنني بقيت طفلاً يرتع بين القضبان حتى جاء خبر وفاتك