اخبار البلد -
في الشعر الفلسطيني، والعربي، يبدو غسان زقطان قادماً من منطقة أُخرى، وحده. أراه دائماً ذلك الرجل الذي لم تتّسع له اللوحة الشهيرة: يمدُّ قدمه ليخرج من الإطار.
وهو أيضاً، كما قيل في شقيقه محمود درويش، لم يتكئ على فلسطين في مقولته الشعرية، وفيما ذهب إليه من أماكن ساحرة لم يطرقها شعراء سابقون، بل كان يصعد أرضه الخاصة الوعرة، متكئاً فقط على لغته المتفرّدة وقاموسه الذي ألَّفه كاملاً.
وهناك في مُعتزله، حيث يذهب كل أسبوع إلى بيته الريفي، لا يجالس غسّان همومه وانشغالاته بالطريقة المألوفة، بل يستدرجها إلى تناولٍ شِعري دائماً ما يحفر في جوّانيات الواحد/ الوحيد، ويستبسل في البحث عن تلك المفردة التي بمجرد أن يكتبها ستصير تشبهه تماماً، وستصير كأنها من صناعته، ويصير متعذراً على أي مفردة أن تحلّ مكانها أو تشغل شغلها.
اختار غسّان من وظائف الشعر ما هي أكثر عُمقاً من الهجاء والرثاء، ومن المديح والتحسّر، لكنها في الحقيقة تشي بكلّ ذلك.
بهدوء، مبالغ فيه أحياناً، كان ينحت معجمه الشعري، ذلك المعجم المنتقى بعنايةٍ وصبر، المحمول على المعرفة والتأمّل، المعجم الذي نجا من كل ما هو شعبوي وسائد، والذي لا يجزمُ بأي يقين ولا يُبدِّد أي شكّ. لا يتودَّد للقارئ بل يفرض شروطه الجمالية عليه، ولا يبتذل نفسه بالشعار أو الهتاف، ولا يخلطها بالأيديولوجيا؛ فهو لا يتحدث عن الشجرة بل يتحدث معها، ولا يصِفُ الطريق بل يقطعها، ولا يرثي "الأيام المجيدة” بقدر ما يُسائلها: أين حطَّت البواخر بأشيائه الصغيرة، وأين انتهت السماء بطائره الملوَّن في دمشق؟
معجم مكتظ بالصور لا بالكلام، لتبدو قصائده كما لو أنها شريط سينمائي، منذ "أريحا” إلى "معهد ناعور” ثم فندق "زهرة راشيا” و "بيروت” ثانية، و”تونس” و”قبرص”، ثم "رام الله”، لكن كل تلك الأماكن تظل خلفية للصورة، الصورة هي نحت الخيال الخالص، هي ما يحدث في المكان، وله، لا المكان.
وحتى حين يبدو في "الويكيبيديا” شاعراً فلسطينياً، فهو يذهب الى ذلك من مكان آخر؛ مهموماً بإنسانيته الواسعة التي تعيده إلى بلاده مُتَرجماً بأكثر من لغة.
لم يكن سهلاً بالتأكيد على شاعر من جيل الثمانينيات أن ينجو من فخّ الشارع، أو فخّ القارئ، في وقت كان كل شيء يتم التعبير عنه بالصراخ، من الفلسفة إلى الموسيقا إلى "المشروع الوطني” إلى ازدحام الأفكار وارتطام الأيديولوجيات ببعضها بعضا،.. خصوصاً حين تأخذ الدنيا ذلك الشاعر وتلقي به وسط بيروت!
ما "بيروت” في ذلك الزمان؟
مختبر فذٌّ لسهولة "الأشياء”، لكن الشاعر الذي وظيفته أن يقلب كل شيء رأساً على عقب، كان يستعد لبداية التحول الكبير في لغته، لينجو ثانيةً، وهذه المرة من صخب السلاح في القصيدة المجاورة.. ومن أصوات القتلى، ليستعد لديوانه "بطولة الأشياء”، وليغادر تماماً اللغة السائدة حوله.
قليلون جداً هم أولئك الذين يمكن أن تقرأهم باللذة ذاتها التي تقرأ فيها "غسان زقطان”، بل ربما لم يعودوا هنا، وكأنما يصف ذلك حين قال: "لم يبق سواي في هذه البرية/ يتأمل الرياح التي تنقل الرمل/ والبحيرات التي تجف”.
كان غسان، على مدار أكثر من أربعين سنة من الكتابة، هادئاً مثل عابدٍ زاهدٍ لا يعوّلُ على شيء من الجوائز أو الهدايا غير ما تهديه له لغته التي ظلَّت تلدُ السحر تلو السحر. لم ينشغل بخصومة مع أحد، ولم يلتهِ عن الكتابة سوى بجمع كل أسباب الكتابة التي يتغذى عليها الشعر!
ثمة حاجات كبيرة في هذا الوقت لنقرأ "غسان”، أهمّها ألا تموت فينا المُخيّلة وسط "البحيرات التي تجف”.