المكان: باص عمومي على طريق مادبا عمان.
الزمان: ذات صباح عام 1963 تقريبا.
- يمّه الأشجار بتركض راجعة ع مادبا.
لم تعرني أمي أدنى اهتمام كانت تستمع الى صديقتها بشغف، وهي تحدثها عن سبب التباعد الذي حصل بين زوجها وجدّي، والد أمي. فهمت من القصة بأن عباس زوج بهية ركب مع جدي على حمار وانطلقا الى القرى المحيطة في مادبا للاسترزاق، حيث كان لجدي دكان لتبييض الطناجر النحاسية، وقد أخذ عباس مساعدا له وشريكا في الغلّة.
وصل جدي وتابعه عباس إلى اول قرية في شريط الجوع المحيط بالبلدة، مثل نتوءات باهتة على حواف الصحراء. فور وصولهم أرسلهم الأهالي إلى بيت كبير توسطه رجل كبير بالسن، يعاني من تورم في ركبته بشكل يعجزه عن المشي. وطلبوا منهما معالجة المريض طبعا.
أخرج جدي زجاجة (مية النار) التي يستخدمها في تببيض الطناجر ودلق القليل منه في صحن، وأعطاه لعباس الذي رش السائل الحارق على الورم، انتشرت رائحة تشبه الشواء، صرخ الرجل بصوت غريب مع جعير وزئير ثم غاب عن الوعي. ارتبك القوم قليلا، ثم القوا القبض على عباس، وربطوه مصلوبا بإحكام على أقرب شجرة.
تشاور القوم فيما بينهم، ثم قالوا للطبيبين المزيفين، بأنهما سيحتجزان إلى ان يفيق الرجل المريض من غيبوبته، وإن لم يفق سوف يقتلونهما. أشعل جدي سيجارة هيشي وتربع في ظل حماره، بينما كان عباس ينشج ملتصقا بالشجرة.
بعد أن أنهى جدي سيجارته حتى الرمق الأخير بنجاح، نهض بتؤدة ورش الماء على وجه المريض، وبعد دقائق مرت كالدهر عطس الرجل ثم نظر إلى ركبته، فرك حول الحرق بأصابعه، ثم نهض على قدميه وسار بشكل سليم تقريبا.
إذن فقد نجح الأطباء المزيفون في تطبيب قدم الرجل. فرح القوم وهللوا، وفكوا وثاق عباس عن الشجرة.
لم تتوقف الأشجار عن السير على جانبي الطريق، لكني اهملتها قليلا وأنا استمع بتشوق إلى قصة جدي وعباس، حيث أن الأهالي فرحوا، فأطلقوا العيارات النارية في الهواء ابتهاجا، وأولموا لهما خروفا مسمّنا، ثم منحوهما كميات من اللبن الجميد والسمن أجرا لهما على تطبيب الرجل المسن، حملهما عباس في كيسه.
خلال عودة الطبيبين المزيفين إلى البلدة، لم يصبر جدي، وطلب من عباس أن يقتسما الغنائم، لكن عباس رفض القسمة وأقسم بأن الأجر من حقه بالكامل.
سأله جدي، وهو بين المصدق والمكذّب عن السبب، فقال عباس:
- مين اللي صلبوه مثل المسيح.... أنا والا انته؟؟؟
غضب جدي وأنزل عباس مع الغنائم عن الحمار، ثم ركب حماره وتركه في وسط الطريق.