تحدث رئيس هيئة النزاهة ومكافحة الفساد السابق، سميح بينو، كثيراً إلى الإعلام، بل أنه تحدث بأكثر مما يلزم، لدرجة أنه أصبح يبث شكواه علانيةً، وبلغة لا تخلو من المرارة، وقبل عقد من الزمن، تحدث بينو أمام الجمهور في مدينة معان، ليعلن أن المكافحة تتعامل مع فاسدين حبكوا فسادهم بإحكام وسدوا المنافذ إليه، ويقال، في بعض الأوساط ان الهيئة وجدت مشكلة كبيرة أن مجموعة ممن خضعوا للتحقيق تحججوا أن توقيعهم غير موجود على أي من المستندات والوثائق موضوع التحقيق، وبذلك تمكنوا من التأسيس لثغرات تحولت إلى أبواب واسعة من أجل هروبهم من المسؤولية، ومن مدخل التوقيع والمسؤولية بدأت ظاهرة (سكن تسلم) لتتحول إلى ظل ثقيل يقبع على أكتاف الأردن، فلا أحد يريد أن يتصدى ليجد نفسه موقعاً للشبهات، خاصة في وجود إصلاح إداري مؤجل ومعطل.
تعريف الفساد في مرات كثيرة متشعب ومتباين وغير واضح، وهو في حالة حصره في الجانب القانوني سيبقى متواضعاً للغاية، ففي الواقع العملي يوجد خصم خفي آخر يكبد الدولة والمجتمع خسائر تفوق الفساد بكثير، ويتمثل في الخوف من اتخاذ القرارات الصحيحة في التوقيت المناسب، لدرجة أنه يمكن القول في هذه المرحلة، ان الدولة الأردنية تعاني من ظاهرة الإضراب الإيطالي والذي يعني العمل وفق القواعد، من غير زيادة ولا رغبة في الاجتهاد، ويتعطل العمل في هذه النوعية من الإضرابات من خلال الوقت المهدر في المناقشة حول الأنظمة واللوائح، بل والتعنت في تنفيذها حرفياً، وليس مهماً الفرص الضائعة التي ستترتب على ذلك، المهم أن يخرج المسؤول من غير شبهة في وقت أصبحت الشبهات فيه ملازمة لفكرة المسؤولية.
يعول الأردنيون كثيراً على الهيئة من أجل مواجهة شبح الفساد الذي لا يعرف أحد أبعاده، ولا يمتلك أي شخص تقديرات عن الخسائر التي يلحقها بالدولة الأردنية، وتحاول الهيئة أن تكون على مستوى المسؤولية، ومن غير كثير من الحضور الاستعراضي، تمضي مثقلة بالشكايات التي تعبر عن شكوك في فساد محتمل، والتي تعبر أيضاً، عن ضغائن أو تصفية للحسابات، أو ببساطة، اختلافاً في وجهات النظر، وعلى الهيئة أن تعمل بعد ذلك كله، على الوقوف في وسط الصراع بين أنماط إدارية وفكرية، خاصة أن كثيراً من اللوائح المرجعية التي تحدد صوابية فعل أو قرار معين، تحتاج هي نفسها إلى مراجعة وإلى تحديث.
تفوقت دول الخليج في اجتذاب الاستثمارات من خلال لوائح مرنة ومبادرات جريئة، ويبدو أن تغيب العمق البيروقراطي كان عاملاً مساعداً في هذه الحالة، وكذلك تغيب المرتكز التشريعي المتمثل في المجالس النيابية، وفي مصر، أنجزت العديد من المشاريع الكبرى من خلال نفس الاستراتيجية ولكن في ظروف مغايرة تمثلت في الثورة وخلخلة الدولة بما كان يمثل مبرراً جاهزاً لإجراءات استثنائية، أما في الأردن، فالعمق البيروقراطي وتماسك العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، استطاعا المحافظة على الدولة، وفي الوقت نفسه، خلقا تشبثاً مرضياً بالمربع الأول.
تمتلك الهيئة بعد سنوات من عملها، وبعد محطات من الإنجاز وأخرى من الإحباط، الكثير من الدروس المستفادة التي يجب أن تعود بها من جديد إلى الإعلام بعد فترة طويلة من التغيب واللجوء إلى العمل المهني، ومن أهم ذلك، أن تبين من تجربتها الإشكالية العميقة بين الفساد الواضح أو الخفي، وبين مشكلات أخرى أكثر عمقاً تمثلت في انعدام الكفاءة والعمل بصورة سلبية الأمر الذي يدفع الأردنيين كثيراً إلى الفرجة على شركات عالمية تأتي للمنطقة وتذهب إلى القاهرة أو الرياض أو دبي أو تل أبيب، وهذه ظاهرة غريبة، فالمنظمات الدولية تعتبر الموظف محظوظاً في حالة حصوله على موقع في الأردن، ولكن الشركات لا تعمل بهذه الطريقة، وتسعى إلى بيئة مواتية للأعمال وليس الأفراد.
يطلق على الإضراب الإيطالي داخل ايطاليا الإضراب الأبيض، والأبيض والأسود ألوان غير منتجة ولا تصنع صورة واضحة، فالحقيقة تتمدد على جميع أطياف اللون الرمادي والألوان الأخرى، ومع ذلك، يجب أن تتضح حدود الصورة، وأن تحدد ما هو أبيض وما هو أسود، وذلك بإطلالها من جديد على الإعلام لتقول رأيها في العديد من القضايا ولتكشف بعضاً من أوراقها، ولتحدد أين كان الخلل في السلبية والالتزام بقواعد من المعروف أنها أصبحت من الماضي، وأن التمسك بها يعبر عن إشكاليات تشريعية وإدارية، ورغبة في تأجيل التغيير والإصلاح على المستوى النفسي تنعكس على الواقع العام في مختلف وجميع تفاصيله.
ربما أصبح الوقت مناسباً من أجل الاشتباك الإيجابي مع قضيتي الفساد والإصلاح الإداري وكثير من أوراقه تتواجد داخل هيئة مكافحة الفساد وتشكل تجربة مهمة يجب توظيفها من أجل الخروج برؤية جديدة تصلح لمحاربة الفساد الأبيض الذي من بعض مظاهره السلبية والتقاعس والتسكين والتسويف والتأجيل، وسنكتشف وقتها أنه لا يقل خطورة عن الفساد بمعناه القانوني والفني.