عقب انتهاء العدوان الإسرائيلي الأخير (آب/ أغسطس 2022) على غزة الذي أسماه الاحتلال "الفجر الصادق"، واستمر ثلاثة أيام، ظهرت جملة قراءات إسرائيلية حول السياسة المثلى تجاه القطاع في ظلّ حالة الاستنزاف القائمة منذ 2008، ووضع عدد من كبار الكتّاب والجنرالات جملة سيناريوهات محتملة قد تتخذها الحكومة القادمة، إذا ما قامت فعلاً بعد انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، تجاه القطاع.
تركزت أولى السيناريوهات الإسرائيلية في الحسم العسكري الكامل مع القطاع من خلال الاجتياح الشامل له، على الرغم مما فيه من كلفة بشرية وسياسية باهظة، وثانيها خطة سياسية تشمل التوصل إلى تفاهمات مع حماس، المسيطرة على غزة، بالتوصل إلى هدنة طويلة المدى، مع تحسينات اقتصادية ومعيشية، وثالثها الاستمرار في حالة الاستنزاف و"جز العشب" من جولة إلى أخرى، ورابعها الجمع بين السيناريوهين الثاني والثالث.[2]
التقدير الذي تطرحه هذه السطور يسعى لاستعراض هذه الخيارات الإسرائيلية، وما الجديد فيها، وتوقيت طرحها هذه الأيام بالذات، ومدى فرص ومخاطر نجاح كل واحد منها، وأدوار الأطراف الفاعلة في إنجاح أي منها أو إفشاله.
مقدمة: غزة في المنظور الإسرائيلي:
يظهر قطاع غزة على شكل شريط ضيق على الساحل الجنوبي من فلسطين، طوله 41 كم، وعرضه يتراوح بين 5-15 كم، يقطن فيه 2.2 مليون فلسطيني، أغلبهم من لاجئي 1948، وتبلغ مساحته 360 كم2، بما يساوي 1.33% من فلسطين الكاملة، و6% من مساحة الدولة الفلسطينية المفترضة مع الضفة الغربية، وقد احتله جيش الاحتلال الإسرائيلي في 1967/6/5 بجانب الضفة الغربية وشرقي القدس، وفرض حكمه العسكري، وسيطر بالكامل على جميع أوجه حياة المجتمع الغزّي، حتى انسحب منه في أيلول/ سبتمبر 2005، بعد مضي قرابة 38 عاماً.
في هذه الفترة الزمنية التي تجاوزت
هذه الفترة الزمنية التي تجاوزت 55 عاماً، برزت آراء إسرائيلية عديدة حول مستقبل العلاقة مع غزة.[3] وكان من بينها من يقول أنه لا يوجد فيها أراضٍ ذات قيمة تذكر؛ فلا يوجد فيها جبل مسيطر على محيطها من الناحية الاستراتيجية، أو نقطة رقابة لمتابعة تحركات جيوش معادية، وليس لليهود فيها أي وشائج وصلات تاريخية، وحسب قول أحد الصحفيين الإسرائيليين: "مَن مِن اليهود بحاجة لهذه الرمال في غزة، بكل ما فيها من كراهية؟ وما الذي يساوي فيها حياة رجل يهودي واحد؟".
حتى إن لكبير المحللين العسكريين الإسرائيليين زئيف شيف Zeev Schiff أجمل المواقف الإسرائيلية من غزة بقوله إن:
"إحدى المشاكل المعقدة للغاية في غزة أنها قنبلة بشرية موقوتة، حتى لو لم تكن أسباب فلسطينية وطنية، ورغبة شديدة من السكان في التحرر من الاحتلال، لكن ستأتي لحظة تنفجر فيها هذه القنبلة، لأسباب ديموغرافية واقتصادية، والبنية التحتية المتداعية، مما أوصلني لنتيجة أنه سيأتي علينا يوم نتوسل فيه لكي يأخذ منا أحد ما، هذا القطاع بمشاكله".
وقد زادت النقاشات الإسرائيلية في طرح مسألة مستقبل العلاقة مع غزة منذ أن فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية في كانون الثاني/ يناير 2006، وبدء الحصار الإسرائيلي على القطاع، ثم الدخول في سلسلة عدوانات إسرائيلية على غزة، بدأت في صيف 2006، وانتهت في صيف 2022.
كعادتها، تعكف المؤسسات البحثية الإسرائيلية عقب كل عدوان يشنه جيش الاحتلال على الفلسطينيين، على دراسة وقائعه، وأسبابه ونتائجه، والدروس المستخلصة منه، ودأبت على طرح السؤال القديم الجديد عن مستقبل العلاقة الإسرائيلية مع غزة، وطرح الخيارات والسيناريوهات التي قد تسهم في مجملها بتخلّص "إسرائيل" من هذا العبء الأمني والعسكري المسمى غزة.
خيارات محتملة:
تظهر الحاجة الإسرائيلية التي تزداد إلحاحاً يوماً بعد يوم حول دراسة النموذج الأكثر تفضيلاً، أو الأقل كلفة، مع استمرار حالة الاستنزاف الاستخباري والعملياتي التي يواجهها جيش الاحتلال تجاه غزة، على اعتبار أن الوضع القائم فيها منذ سنة 2006، أنه ما إن تنتهي حرب فيها حتى يتم الاستعداد لخوض الحرب التالية، وسط تهديدات وتحديات أمنية وعسكرية تحيط بدولة الاحتلال أكثر خطورة وأثقل كلفة من غزة، مما قد يشغلها عن التحضر لها، والاستعداد لمواجهتها.[4]
وقد شهدت السنوات الماضية صدور العديد من الدراسات الإسرائيلية ونشر المقالات وعقد الندوات التي انشغلت كلها بالحديث عن مستقبل العلاقة مع غزة، وقدمت لكل سيناريو سلبياته وإيجابياته، دوافعه وكوابحه، وفرص نجاحه أو فشله، وكان لافتاً عدم قدرة هذه الأوساط الإسرائيلية على ترجيح أي من السيناريوهات هو أكثر قابلية للتطبيق على أرض الواقع، نظراً لأن "إسرائيل" لم تعد الفاعل الوحيد في الساحة الفلسطينية داخل غزة، مع تزايد اللاعبين، وامتلاكهم زمام المبادرة أكثر منها، لا سيّما حماس، التي تسيطر على القطاع، وتحوز على قدرات وإمكانيات سياسية وعسكرية وازنة.
السيناريو الأول: الحسم العسكري:
ينطلق الاحتلال من هذا السيناريو المكلِّف والقاسي من فرضية مفادها أن الاستمرار بصيغة جولة تتلوها جولة، وعملية تتبعها عملية، قد يستمر سنوات وعقوداً قادمة، وهذا الأمر له تبعاته بعيدة المدى على الدولة (الكيان الصهيوني)، مما يدفع باتجاه تبني مثل هذا الخيار للأسباب التالية:[5]
1. التخلص من حالة استنزاف الجيش بين كل جولة وأخرى، لأن خوض أي مواجهة عسكرية ما في القطاع، صغيرة كانت أم كبيرة، طويلة أم خاطفة، تتطلب من الجيش الاستعداد القتالي الكافي قبلها بأشهر عديدة، بالإضافة إلى تحصين الجبهة الداخلية بمزيد من الإجراءات التي تحميها من خطر القذائف الصاروخية الفلسطينية، بعد أن باتت مدياتها تمس العمق الإسرائيلي، بما في ذلك المدن الشمالية.
2. ما تتركه هذه الجولات العسكرية المتقطعة من فقدان الاستقرار السياسي والحزبي والحكومي،[6] لا سيّما في الأوضاع التي لا يتوفر فيها إجماع أو توافق إسرائيلي واسع على مثل هذه العمليات، في هذه الحالة قد ينهار الائتلاف الحكومي لعدم اقتناع مختلف مكوناته الحزبية بالحرب من جهة، أو تنجح المعارضة بحجب الثقة عن الحكومة في الكنيست لترويجها أن هذه العملية العسكرية أو تلك إنما تمت لأغراض حزبية وانتخابية، وقد عرّضت أمن الدولة للخطر.
3. التركيز الدائم على خطورة جبهة غزة، يعني الانشغال عن تحديات وتهديدات قد تكون أكثر أهمية محيطة بدولة الاحتلال في الإقليم، سواء إيران وبرنامجها النووي، وحزب الله وقوته المتنامية، والضفة الغربية ومفاجآتها غير المتوقعة. وعلى الرغم من أن شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) Aman، وجهات تقدير الموقف في دولة الاحتلال دأبت على نشر ما تقول أنها خريطة التهديدات المحيطة بها تتركز في هذه التهديدات الأربع، لكنها تضع غزة في المرتبة الأخيرة،[7] مما يجعل من غير المنطقي، من وجهة النظر الإسرائيلية، أن تهدر الدولة إمكانياتها العسكرية وجهودها السياسية أمام تهديد لا يحتل أولوية متقدمة على سواه.
في الوقت ذاته، لا تخفي الأوساط العسكرية والأمنية الإسرائيلية التي تروج لهذا الخيار أنه يحمل بين طياته كوابح وموانع عديدة، لا تشجع دوائر صنع القرار في تل أبيب على الذهاب نحوه، على الرغم من قناعتها به، ومن أهمها:
1. الأثمان البشرية المتوقع أن تدفعها دولة الاحتلال: فطالما أن الحديث يدور عن حسم عسكري، إذاً يمكن ترجمته باللغة العملياتية البحتة بأنه اجتياح كامل للقطاع، وبلغة أكثر وضوحاً إعادة احتلال له، بعد الانسحاب منه في مثل هذه الأيام من سنة 2005، مع العلم أن هذا الانسحاب تمّ وفق خطة إسرائيلية تسعى للانفصال عن الفلسطينيين ضمن توجه استراتيجي بعيد المدى، لكن أحد أهم روافعه كانت لإقناع الإسرائيليين به هي الخسائر البشرية التي كان يدفعها الاحتلال في غزة، والحديث يدور عن مرحلة تعود إلى قرابة عشرين عاماً، مما يجعل الإسرائيليين يهربون من التفكير في "كابوس" العودة إلى غزة، ولو بشكل مؤقت لـ"تطهيرها" من قوى المقاومة المسلحة فيها.[8]
لم يعد سرّاً أن عودة الجنود الإسرائيليين من أرض المعركة إلى الدفن في مقابر تل أبيب بالتوابيت السوداء هو بداية النهاية لأي حكومة قائمة، فكيف لو كان الحال بعودة المئات، وربما الآلاف، إذا تمّ تنفيذ الاجتياح، خصوصاً أن الإسرائيليين على قناعة بأن في غزة مقاتلين ينتظرون الاشتباك مع الجنود الإسرائيليين وجهاً لوجه، لأنه في هذه الحالة سيتم تحييد سلاح الجو بعد أن تصبح المسافة الفاصلة بين الجانبين هي صفر، وصفر فقط!
2. الضغط الداخلي: إنّ عدم وجود توافق من الآن على فرضية الحسم العسكري أو الاجتياح الشامل للقطاع، سيفسح المجال للمعارضة السياسية والمؤسسات الحقوقية والقانونية ووسائل الإعلام، بالإضافة للمنتديات البحثية والدراسية، بالمطالبة فور عودة أوائل الجنود قتلى وجرحى، بوقف ما قد يرونه عبثاً وحلولاً عدمية أمام غزة، الأمر الذي يعني بداية حدوث تصدّع في الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي ينبغي أن تقف خلف الحكومة والجيش، وتشكل لهما جداراً استنادياً يدفع بهما الى الأمام لاستكمال هذه المهمة.
هنا يمكن أن نستذكر حركة "أمهات بالسواد"، و"الأمهات الأربع"، و"طيارون ضدّ القتل" وغيرها من التجمعات التي ظهرت سابقاً في ذروة انتفاضتَي الحجارة والأقصى والوجود الإسرائيلي في جنوب لبنان، احتجاجاً على تورط دولة الاحتلال في المستنقَعين الفلسطيني واللبناني.
3. الضغوط الدولية الخارجية: كان واضحاً أن أحد مفاتيح نجاح خطة الانسحاب الإسرائيلي من غزة تمثل بما حظيت به من دعم دولي وإسناد أمريكي، سواء للتخفيف من حدة دعم هذه الدول لآخر الاحتلالات في العالم، أم باعتبار أن ذلك قد يعبّد الطريق نحو استئناف العملية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين على طريق حلّ الدولتين، الأمر الذي يعني بالضرورة ظهور معارضات دولية واسعة النطاق، بما في ذلك، وهذا غير مستبعد، من الإدارة الأمريكية، لأنه قد يعني عودة الى التاريخ أكثر من خمسين عاماً الى الوراء، حين تمّ احتلال القطاع في حرب سنة 1967.
اليوم، وفي ظلّ ما تحظى به دولة الاحتلال من توسع في علاقاتها الإقليمية، خصوصاً بعد اتفاقيات التطبيع، والدولية، سواء باستئناف مجلس الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، أم ترميم العلاقة مع دول كانت إلى عهد قريب مناصرة للقضية الفلسطينية مثل الصين والهند، سيكون صعباً على "إسرائيل" المخاطرة بهذه العلاقات أمام قرار عسكري لا تعرف مآلاته بدقة.
هنا يبدو الاستدراك مهماً، فالإسرائيليون يتحدثون بصوت عالٍ نسبياً عن ضرورة اقتلاع هذه الشوكة في خاصرتهم الجنوبية المسماة غزة، وتحديداً المقاومة المسلحة فيها، صحيح أن الكلفة البشرية باهظة، والخسائر العسكرية قد تكون فوق احتمال الرأي العام الإسرائيلي، لكن سيناريو اجتياح بيروت 1982 ما زال ماثلاً أمام الإسرائيليين، ويستشهدون به بين حين وآخر لأنه خلّصهم من كابوس منظمة التحرير الفلسطينية، وأراح المستوطنين في كريات شمونة والجليل من قذائف الكاتيوشا.
صحيح أن الظروف قد تكون مختلفة بين بيروت 1982 وغزة 2022، لكن دوائر التخطيط العسكري الإسرائيلي قد يكون في أدراجها خطة قتالية من هذا النوع، وبتفاصيل التفاصيل، بانتظار استدعائها من المستوى السياسي.
السيناريو الثاني: تسوية مقابل الهدوء:
يتمثل هذا السيناريو في إنجاز تسوية ما، أيّاً كان شكلها أو اسمها، مع القوة المسيطرة على غزة، وهي حركة حماس، ويحمل في طياته التوصل إلى هدوء أمني في القطاع يمتد إلى خمس أو عشر سنوات، مقابل تقديم جملة تسهيلات اقتصادية ومعيشية للقطاع المحاصر، والحقيقة أن هذه التسوية، بغض النظر عن الإطار الذي قد تأتي ضمنه، استحوذت على نقاشات ومداولات إسرائيلية عديدة، لا سيّما وأنها تأتي متزامنة مع دعوات "السلام الاقتصادي" الذي يجري تطبيقه في الضفة الغربية من قبل السلطة الفلسطينية والاحتلال، دون الإقرار بمسماه الحقيقي.[9]
هناك العديد من الدوافع والحوافز التي تدفع الاحتلال لاستنساخ هذا النموذج في غزة، على الرغم من اختلاف الظروف في بعض المناحي عن الضفة الغربية، ومن هذه الدوافع:
1. الحصول على هدوء أمني لعدة سنوات لم يتحقق منذ عقدين من الزمن، حين اندلعت انتفاضة الأقصى أواخر سنة 2000، وزادت حدة التوتر والتصعيد مع غزة بُعيد الانسحاب منها، ثم سيطرة حماس عليها، حيث أصبحت مفردة غزة عند الإسرائيليين تعني العنف والصواريخ والملاجئ و"الدم والعرق والدموع"، مما سيجعل من مثل هذه التسوية، في حال تحققت، فرصة لالتقاط الأنفاس لدى الاحتلال.[10]
2. اعتقاد الإسرائيليين أن عودة الانتعاش الاقتصادي إلى غزة بعد طول حصار ومعاناة، قد يسهم في ابتعاد الفلسطينيين رويداً رويداً عن مسار المقاومة، بداعي انصرافهم إلى تحقيق تطلعاتهم وأحلامهم الشخصية، مع أن ذلك لم يتحقق فعلاً في الضفة الغربية، فالمقاومة مستمرة فيها على الرغم من توافد عشرات آلاف العمال الفلسطينيين للعمل لدى المشغلين الإسرائيليين في الداخل المحتل، مع العلم أن الإسرائيليين[11] عوّلوا كثيراً على عدم انخراط حماس المباشر في المعركة الأخيرة التي شنها الاحتلال على غزة، باعتبارها واحدة من القناعات الجديدة لدى حماس، بزعم أن الحركة "بات لديها ما تخسره" في ظلّ سلسلة التسهيلات المعيشية المقدمة إلى سكان غزة.[12]
3. محاولة الاحتلال "سلخ" قطاع غزة عن المحور المعادي له في المنطقة، وتحديداً إيران وحلفاؤها. وبالرغم من أن المقاومة ترتبط بعلاقات وثيقة بإيران، لكنها في الوقت ذاته تؤكد أن قرارها وطني فلسطيني مستقل، وأنها ليست في جيب أحد من دول الإقليم، ومع ذلك تتطلع "إسرائيل" لأن تسهم هذه التهدئة التي قد يطول أمدها في إخراج قطاع غزة من حسابات إيران في حال تعرضت هي أو حلفاؤها لهجوم إسرائيلي ما.[13]
4. على المدى البعيد، قد يقدم هذا السيناريو للحلبة السياسية الإسرائيلية بعمومها، يمينها ويسارها ووسطها، طوق النجاة من تذكيرها الدائم بحل الدولتين مع الفلسطينيين، لأنه في مثل هذه الحالة سيصبح للفلسطينيين كيانان سياسيان، أحدهما تحكمه السلطة الفلسطينية فيما تبقى من الضفة الغربية، وثانيهما تسيطر عليه حماس في قطاع غزة، وفي هذه الحالة قد تتحرر "إسرائيل" من الضغوط الدولية التي تطالبها بالعودة إلى طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين.
في المقابل، وعلى الرغم مما قد يتاح أمام هذا السيناريو من فرص نجاح، لكن هناك ألغاماً في الطريق تعترض تحقيقه، مصدرها الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي، وربما الإقليمي أيضاً، المحيط بهما، على النحو التالي:
1. مهما حاول الاحتلال تغليف مثل هذه التسوية بالمسائل الاقتصادية والمعيشية والمطلبية، فإنه يعني في سطره الأخير إقراراً واعترافاً إسرائيلياً لا تخطئه العين بسيطرة حماس على غزة، بما يحمله ذلك من دلالات سياسية وعسكرية وحكومية، أي أنه يعني أكثر وضوحاً فشلاً إسرائيلياً ذريعاً بكل مخططات الإقصاء والعزل والإجهاض الذي مارسته دولة الاحتلال على حماس طوال أكثر من ستة عشر عاماً منذ فوزها في الانتخابات التشريعية 2006، ومعها العديد من الدول العربية والقوى الدولية، وفي مثل هذه الحالة ستجد حماس نفسها أنها في موقع المنتصر، على الرغم مما واجهته من سياسات قاسية ضربت في عصب قوتها وإدارتها للشأن العام في غزة، بل وآكلت من شعبيتها في الكثير من الأحيان.
2. في مثل هذه التسوية، وعلى الرغم من وجود انسجام كبير في المواقف الإسرائيلية وبعض العربية، خصوصاً المطبّعة منها، لكن مثل هذه التسوية التي تعني إقراراً بسلطة حماس وسيادتها، قد لا تجد قبولاً عند الدول العربية التي يأمل الاحتلال أن تدعم هذه التسوية مالياً واقتصادياً، لأن ذلك يعني إسهام هذه الدول، ومن مالها ولحمها الحيّ، في إحياء كيان سياسي عملت هي ذاتها في سنوات سابقة على قتله ووأده في مهده، مما سيضع عراقيل لوجستية ومادية أمام تحقيق هذه التسوية، وقد يدفع بـ"إسرائيل" لطلب دعم دولي وعالمي لها.[14]
3. إلى أن يتم تحقيق مثل هذه التسوية، فلا يعرف في ظلّ حالة الزئبقية التي تعيشها الحلبة السياسية الإسرائيلية، وعدم الاستقرار، مدى موافقة الحكومات الإسرائيلية القادمة على هذا الخيار، على اعتبار أن العادة جرت في السنوات الأخيرة ألا تحترم حكومة إسرائيلية قادمة تعهدات واتفاقات أبرمتها حكومات سابقة، وبالتالي فقد تأتي أي حكومة لاحقة، وتطوي صفحة هذه التفاهمات، وتعود إلى نقطة الصفر في العلاقة مع غزة.
4. هناك كابح فلسطيني داخلي بحت، ظهر في المواجهة الأخيرة التي شهدتها غزة، ومفاده أن حماس المسيطرة على القطاع، ربما لم تعد الجهة الوحيدة الحصرية التي تمسك بقرار المواجهة والتهدئة مع الاحتلال، حتى لو تمّ ذلك من خلال الغرفة المشتركة للأجنحة العسكرية الفلسطينية، وهذا يعني أنه في حال تمّ إبرام التسوية مع الاحتلال بوساطات عربية ودولية، بعد إنضاجها داخل الساحة الفلسطينية في غزة، فقد يبدي طرف فلسطيني ما اعتراضه عليها، وبالتالي يعمل بقرار أحادي على إفشالها، دون أن تستطيع حماس منعه من ذلك، خشية لتكرار نموذج السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
يمكن الحديث بكثير من الثقة أن مثل هذا السيناريو ربما أخذ طريقه للتنفيذ في ظلّ الأوضاع الاقتصادية الكارثية في القطاع، وخشية المقاومة من فقدان حاضنتها الشعبية، مما يدفعها للقبول بأي تحسينات معيشية مطلبية لسكان القطاع، دون أن يلزمها بوقف قدراتها العسكرية القتالية، بل تواصلها، دون الحاجة الدورية لاستخدامها عند كل حدث.
السيناريو الثالث: استمرار الاستنزاف:
منذ انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة سنة 2005، شرعت بتنفيذ عدوانات عسكرية عليه من حين لآخر، بعضها تحول إلى حروب استمرت أسابيع، وخلفت آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى، أهمها حرب كانون الأول/ ديسمبر 2008 – كانون الثاني/ يناير 2009، واستمرت 23 يوماً، وأسفرت عن 1,430 شهيداً فلسطينياً، و5,400 جريحٍ، وتدمير 10 آلاف منزل، فيما اعترف الاحتلال بمقتل 13 إسرائيلياً، وإصابة 300 آخرين، ثم جاءت حرب تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، واستمرت ثمانية أيام، استشهد فيها 180 فلسطينياً، وجرح 1,300 آخرين، فيما قتل 20 إسرائيلياً وأصيب 625 آخرون.
ثم شهد شهرا تموز/ يوليو وآب/ أغسطس 2014، حرب الواحد وخمسين يوماً، وأسفرت عن 2,322 شهيداً و11 ألف جريح، وقتل 72 إسرائيلياً، وأصيب 2,522 إسرائيلياً آخرين. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 شنت "إسرائيل" عدواناً استمر عدة أيام أسفر عن استشهاد 34 فلسطينياً، وجرح 100 آخرين. وفي أيار/ مايو 2021 هاجم الاحتلال قطاع غزة في حرب استمرت عشرة أيام أسفرت عن مقتل 12 إسرائيلياً وإصابة 330 آخرين، واستشهاد 250 فلسطينياً وإصابة 5 آلاف. وأخيراً عدوان آب/ أغسطس 2022 الذي استمر ثلاثة أيام، وأسفر عن استشهاد 24 فلسطينياً، وإصابة 200 بجروح مختلفة.[15]
هذا الرصد الإحصائي للعدوانات الإسرائيلية لا يتضمن مئات الهجمات الخاطفة التي شنتها طائرات الاحتلال ومدفعيته وبحريته باتجاه الفلسطينيين في القطاع، دون أن تمتد أكثر من أربع وعشرين ساعة، مما يجعل هذا السيناريو يحقق للاحتلال جملة أفضليات عسكرية عملياتية من أهمها:
1. مواصلة استنزاف قوى المقاومة انطلاقاً من سياسة "جز العشب" التي تتبعها قوات الاحتلال دون أن تضطر لخوض حرب شاملة.
2. إبقاء المقاومة في حالة الدفاع عن النفس بدلاً من التفكير في قرارات الهجوم والمباغتة.
3. تحويل الحياة في غزة إلى جحيم لا يطاق، و"تدفيع" الفلسطينيين ثمن احتضانهم للمقاومة.
4. إبقاء غزة بنظر الرأي العام العالمي على أنها نظيرة بؤر عسكرية مسلحة في العالم، لا تستحق الرعاية.
5. لا تستدعي مثل هذه العمليات ضغوطاً دولية على الاحتلال، لا سيّما في حال تمّ التحضير لها جيداً، وعملت ماكنته الديبلوماسية والدعائية جيداً جنباً إلى جنب مع الماكنة العسكرية القتالية.[16]
في المقابل، فإن استمرار هذا السيناريو لا يحوز على دعم دوائر واسعة في اتخاذ القرار الإسرائيلي، لعدة أسباب:
1. كما أن هذه الحروب والعمليات تستنزف المقاومة، فإنها تستنزف الاحتلال أيضاً، كماً ونوعاً: عسكرياً، واقتصادياً، وبشرياً.[17]
2. يمنح المقاومة فرصة تجريب قدراتها العسكرية التي لم تعد تمس مستوطنات الغلاف فقط، بل تمس عمق الكيان الإسرائيلي.
3. فقدان الإسرائيليين بين حرب وأخرى للأمن والهدوء، وتبديد شعارات دولة اليهود وملجئهم ومأواهم الأخير.
4. تسويق صورة "إسرائيل" المعتدية على المدنيين الفلسطينيين، وتراكم ملفاتها القانونية لدى محكمة الجنايات الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية.[18]
خلاصة هذا السيناريو أنه مرشح للاستمرار بين حين وآخر، ولعله يكون متصدّراً لأجندة القادة العسكريين الإسرائيليين، بعيداً عن خيار الحروب الطاحنة التي تستمر أسابيع طويلة، لأنهم استلهموا فكرة "المعركة بين الحروب" التي ينفذونها ضدّ التواجد الإيراني في سورية، ومحاولة وقف تنامي قوة حزب الله العسكرية، أي أنهم "يشنون عشرة هجمات جوية وبحرية وأرضية في العام الواحد، دون الحاجة إلى شنّ حرب ضارية واحدة كل عشر سنوات".[19]
السيناريو الرابع: التسوية والاستنزاف:
حين تضيق الخيارات الإسرائيلية باتجاه غزة، يمكن اللجوء إلى سياسة الدمج بين الخيارين الثاني والثالث، ولعله الأكثر ترجيحاً، كونه يوائم بينهما، ويحول دون دفع الاحتلال لأثمان باهظة على الصعيدَين البشري والعسكري، على الرغم من أنه لا يوفر الأمن الإسرائيلي المفقود حين تندلع أي مواجهة عسكرية مع المقاومة في غزة.[20]
في الوقت ذاته، يمكن ذهاب "إسرائيل" إلى هذا الخيار المزدوج بالجمع بين التسوية الاقتصادية والمعيشية لغزة، واستمرار استنزاف المقاومة فيها بين حين وآخر، كجزء من سياسة إدارة الصراع مع الفلسطينيين وليس حلّه، وهو النهج الذي اتبعته الحكومات الإسرائيلية فور انهيار مفاوضات كامب ديفيد بين الجانبين أواخر سنة 2000، ووصول الاحتلال إلى قناعة أن حلّ الصراع يستدعي منه تقديم ما يزعم أنها "تنازلات مؤلمة"، مما أوجد أرضية متوافق عليها بين مختلف الأوساط السياسية والحزبية باتباع هذه السياسة.
في الوقت ذاته، يعتقد الإسرائيليون أن المقاومة الفلسطينية لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذا السيناريو، طالما أنه لا يلزمها بشيء، أي أنه إذا قدَّم الاحتلال ما يدعي أنها تسهيلات معيشية لسكان غزة دون تعهد المقاومة بوقف أنشطتها العسكرية أو مراكمة قدراتها التسلحية، وفي الوقت ذاته فإن الاستنزاف الذي يسعى إليه الاحتلال ضدها، من المتوقع أن تقابله باستنزاف مضاد، وحينها سيعود الجانبان إلى الحالة ذاتها من المواجهة غير المتوقفة.[21]
على الرغم من ذلك، فإنه قد يكون الخيار الأكثر ترجيحاً كونه لا يستدعي من الجانبين التعهد بأي التزامات خطية أو مكتوبة، بل يبقي أيديهما طليقة تجاه الطرف الآخر، دون أن تتوفر ضمانات بألا تنزلق الأمور مجدداً إلى الخيار الأول الذي تخشاه كل الأطراف، وتبتعد عنه قدر الإمكان.
خاتمة:
لا يزعم كاتب هذه السطور أن هذه الخيارات الأربعة الوحيدة المتاحة بين يدي صناع القرار الإسرائيلي تجاه غزة، فقد تكون هناك سيناريوهات واحتمالات أخرى، لكن هذه الورقة اجتهدت في تلخيص أهم الخيارات، واستعراض دوافعها وكوابحها، وترجيح أي منها الأكثر احتمالية للتنفيذ.
في المقابل، لم تعد "إسرائيل" صاحبة اليد الطليقة في غزة، فالمقاومة باتت لها يد طولى في تطور الأوضاع فيها، والإسرائيليون يدركون أن أي خيار من الواردة أعلاه سيكون له تأثيراته المباشرة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وهو أمر يأخذونه بعين الاعتبار، بعد أن تحولت هذه الجبهة إلى نقطة ضعف مصيرية في أي استعدادات يتحضر لها جيش الاحتلال لشنّ أي عدوان على غزة.
الخلاصة أن قادم الأيام قد لا يحمل في طياته خياراً واحداً مباشراً وفورياً لتطبيقه على غزة، لكن ربما يجمع أو يراوح الاحتلال بين بعض هذه الخيارات، ريثما تتوفر الظروف الميدانية في غزة ولدى الاحتلال للشروع في خيار أساسي محدد، مع أن ما تعيشه دولة الاحتلال من حملة انتخابية حامية الوطيس ربما تنتهي أو لا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، يجعلها تدير الأوضاع في غزة مؤقتاً بصيغة "المياومة" بدلاً من الذهاب إلى خيارات استراتيجية حاسمة
تركزت أولى السيناريوهات الإسرائيلية في الحسم العسكري الكامل مع القطاع من خلال الاجتياح الشامل له، على الرغم مما فيه من كلفة بشرية وسياسية باهظة، وثانيها خطة سياسية تشمل التوصل إلى تفاهمات مع حماس، المسيطرة على غزة، بالتوصل إلى هدنة طويلة المدى، مع تحسينات اقتصادية ومعيشية، وثالثها الاستمرار في حالة الاستنزاف و"جز العشب" من جولة إلى أخرى، ورابعها الجمع بين السيناريوهين الثاني والثالث.[2]
التقدير الذي تطرحه هذه السطور يسعى لاستعراض هذه الخيارات الإسرائيلية، وما الجديد فيها، وتوقيت طرحها هذه الأيام بالذات، ومدى فرص ومخاطر نجاح كل واحد منها، وأدوار الأطراف الفاعلة في إنجاح أي منها أو إفشاله.
مقدمة: غزة في المنظور الإسرائيلي:
يظهر قطاع غزة على شكل شريط ضيق على الساحل الجنوبي من فلسطين، طوله 41 كم، وعرضه يتراوح بين 5-15 كم، يقطن فيه 2.2 مليون فلسطيني، أغلبهم من لاجئي 1948، وتبلغ مساحته 360 كم2، بما يساوي 1.33% من فلسطين الكاملة، و6% من مساحة الدولة الفلسطينية المفترضة مع الضفة الغربية، وقد احتله جيش الاحتلال الإسرائيلي في 1967/6/5 بجانب الضفة الغربية وشرقي القدس، وفرض حكمه العسكري، وسيطر بالكامل على جميع أوجه حياة المجتمع الغزّي، حتى انسحب منه في أيلول/ سبتمبر 2005، بعد مضي قرابة 38 عاماً.
في هذه الفترة الزمنية التي تجاوزت
هذه الفترة الزمنية التي تجاوزت 55 عاماً، برزت آراء إسرائيلية عديدة حول مستقبل العلاقة مع غزة.[3] وكان من بينها من يقول أنه لا يوجد فيها أراضٍ ذات قيمة تذكر؛ فلا يوجد فيها جبل مسيطر على محيطها من الناحية الاستراتيجية، أو نقطة رقابة لمتابعة تحركات جيوش معادية، وليس لليهود فيها أي وشائج وصلات تاريخية، وحسب قول أحد الصحفيين الإسرائيليين: "مَن مِن اليهود بحاجة لهذه الرمال في غزة، بكل ما فيها من كراهية؟ وما الذي يساوي فيها حياة رجل يهودي واحد؟".
حتى إن لكبير المحللين العسكريين الإسرائيليين زئيف شيف Zeev Schiff أجمل المواقف الإسرائيلية من غزة بقوله إن:
"إحدى المشاكل المعقدة للغاية في غزة أنها قنبلة بشرية موقوتة، حتى لو لم تكن أسباب فلسطينية وطنية، ورغبة شديدة من السكان في التحرر من الاحتلال، لكن ستأتي لحظة تنفجر فيها هذه القنبلة، لأسباب ديموغرافية واقتصادية، والبنية التحتية المتداعية، مما أوصلني لنتيجة أنه سيأتي علينا يوم نتوسل فيه لكي يأخذ منا أحد ما، هذا القطاع بمشاكله".
وقد زادت النقاشات الإسرائيلية في طرح مسألة مستقبل العلاقة مع غزة منذ أن فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية في كانون الثاني/ يناير 2006، وبدء الحصار الإسرائيلي على القطاع، ثم الدخول في سلسلة عدوانات إسرائيلية على غزة، بدأت في صيف 2006، وانتهت في صيف 2022.
كعادتها، تعكف المؤسسات البحثية الإسرائيلية عقب كل عدوان يشنه جيش الاحتلال على الفلسطينيين، على دراسة وقائعه، وأسبابه ونتائجه، والدروس المستخلصة منه، ودأبت على طرح السؤال القديم الجديد عن مستقبل العلاقة الإسرائيلية مع غزة، وطرح الخيارات والسيناريوهات التي قد تسهم في مجملها بتخلّص "إسرائيل" من هذا العبء الأمني والعسكري المسمى غزة.
خيارات محتملة:
تظهر الحاجة الإسرائيلية التي تزداد إلحاحاً يوماً بعد يوم حول دراسة النموذج الأكثر تفضيلاً، أو الأقل كلفة، مع استمرار حالة الاستنزاف الاستخباري والعملياتي التي يواجهها جيش الاحتلال تجاه غزة، على اعتبار أن الوضع القائم فيها منذ سنة 2006، أنه ما إن تنتهي حرب فيها حتى يتم الاستعداد لخوض الحرب التالية، وسط تهديدات وتحديات أمنية وعسكرية تحيط بدولة الاحتلال أكثر خطورة وأثقل كلفة من غزة، مما قد يشغلها عن التحضر لها، والاستعداد لمواجهتها.[4]
وقد شهدت السنوات الماضية صدور العديد من الدراسات الإسرائيلية ونشر المقالات وعقد الندوات التي انشغلت كلها بالحديث عن مستقبل العلاقة مع غزة، وقدمت لكل سيناريو سلبياته وإيجابياته، دوافعه وكوابحه، وفرص نجاحه أو فشله، وكان لافتاً عدم قدرة هذه الأوساط الإسرائيلية على ترجيح أي من السيناريوهات هو أكثر قابلية للتطبيق على أرض الواقع، نظراً لأن "إسرائيل" لم تعد الفاعل الوحيد في الساحة الفلسطينية داخل غزة، مع تزايد اللاعبين، وامتلاكهم زمام المبادرة أكثر منها، لا سيّما حماس، التي تسيطر على القطاع، وتحوز على قدرات وإمكانيات سياسية وعسكرية وازنة.
السيناريو الأول: الحسم العسكري:
ينطلق الاحتلال من هذا السيناريو المكلِّف والقاسي من فرضية مفادها أن الاستمرار بصيغة جولة تتلوها جولة، وعملية تتبعها عملية، قد يستمر سنوات وعقوداً قادمة، وهذا الأمر له تبعاته بعيدة المدى على الدولة (الكيان الصهيوني)، مما يدفع باتجاه تبني مثل هذا الخيار للأسباب التالية:[5]
1. التخلص من حالة استنزاف الجيش بين كل جولة وأخرى، لأن خوض أي مواجهة عسكرية ما في القطاع، صغيرة كانت أم كبيرة، طويلة أم خاطفة، تتطلب من الجيش الاستعداد القتالي الكافي قبلها بأشهر عديدة، بالإضافة إلى تحصين الجبهة الداخلية بمزيد من الإجراءات التي تحميها من خطر القذائف الصاروخية الفلسطينية، بعد أن باتت مدياتها تمس العمق الإسرائيلي، بما في ذلك المدن الشمالية.
2. ما تتركه هذه الجولات العسكرية المتقطعة من فقدان الاستقرار السياسي والحزبي والحكومي،[6] لا سيّما في الأوضاع التي لا يتوفر فيها إجماع أو توافق إسرائيلي واسع على مثل هذه العمليات، في هذه الحالة قد ينهار الائتلاف الحكومي لعدم اقتناع مختلف مكوناته الحزبية بالحرب من جهة، أو تنجح المعارضة بحجب الثقة عن الحكومة في الكنيست لترويجها أن هذه العملية العسكرية أو تلك إنما تمت لأغراض حزبية وانتخابية، وقد عرّضت أمن الدولة للخطر.
3. التركيز الدائم على خطورة جبهة غزة، يعني الانشغال عن تحديات وتهديدات قد تكون أكثر أهمية محيطة بدولة الاحتلال في الإقليم، سواء إيران وبرنامجها النووي، وحزب الله وقوته المتنامية، والضفة الغربية ومفاجآتها غير المتوقعة. وعلى الرغم من أن شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) Aman، وجهات تقدير الموقف في دولة الاحتلال دأبت على نشر ما تقول أنها خريطة التهديدات المحيطة بها تتركز في هذه التهديدات الأربع، لكنها تضع غزة في المرتبة الأخيرة،[7] مما يجعل من غير المنطقي، من وجهة النظر الإسرائيلية، أن تهدر الدولة إمكانياتها العسكرية وجهودها السياسية أمام تهديد لا يحتل أولوية متقدمة على سواه.
في الوقت ذاته، لا تخفي الأوساط العسكرية والأمنية الإسرائيلية التي تروج لهذا الخيار أنه يحمل بين طياته كوابح وموانع عديدة، لا تشجع دوائر صنع القرار في تل أبيب على الذهاب نحوه، على الرغم من قناعتها به، ومن أهمها:
1. الأثمان البشرية المتوقع أن تدفعها دولة الاحتلال: فطالما أن الحديث يدور عن حسم عسكري، إذاً يمكن ترجمته باللغة العملياتية البحتة بأنه اجتياح كامل للقطاع، وبلغة أكثر وضوحاً إعادة احتلال له، بعد الانسحاب منه في مثل هذه الأيام من سنة 2005، مع العلم أن هذا الانسحاب تمّ وفق خطة إسرائيلية تسعى للانفصال عن الفلسطينيين ضمن توجه استراتيجي بعيد المدى، لكن أحد أهم روافعه كانت لإقناع الإسرائيليين به هي الخسائر البشرية التي كان يدفعها الاحتلال في غزة، والحديث يدور عن مرحلة تعود إلى قرابة عشرين عاماً، مما يجعل الإسرائيليين يهربون من التفكير في "كابوس" العودة إلى غزة، ولو بشكل مؤقت لـ"تطهيرها" من قوى المقاومة المسلحة فيها.[8]
لم يعد سرّاً أن عودة الجنود الإسرائيليين من أرض المعركة إلى الدفن في مقابر تل أبيب بالتوابيت السوداء هو بداية النهاية لأي حكومة قائمة، فكيف لو كان الحال بعودة المئات، وربما الآلاف، إذا تمّ تنفيذ الاجتياح، خصوصاً أن الإسرائيليين على قناعة بأن في غزة مقاتلين ينتظرون الاشتباك مع الجنود الإسرائيليين وجهاً لوجه، لأنه في هذه الحالة سيتم تحييد سلاح الجو بعد أن تصبح المسافة الفاصلة بين الجانبين هي صفر، وصفر فقط!
2. الضغط الداخلي: إنّ عدم وجود توافق من الآن على فرضية الحسم العسكري أو الاجتياح الشامل للقطاع، سيفسح المجال للمعارضة السياسية والمؤسسات الحقوقية والقانونية ووسائل الإعلام، بالإضافة للمنتديات البحثية والدراسية، بالمطالبة فور عودة أوائل الجنود قتلى وجرحى، بوقف ما قد يرونه عبثاً وحلولاً عدمية أمام غزة، الأمر الذي يعني بداية حدوث تصدّع في الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي ينبغي أن تقف خلف الحكومة والجيش، وتشكل لهما جداراً استنادياً يدفع بهما الى الأمام لاستكمال هذه المهمة.
هنا يمكن أن نستذكر حركة "أمهات بالسواد"، و"الأمهات الأربع"، و"طيارون ضدّ القتل" وغيرها من التجمعات التي ظهرت سابقاً في ذروة انتفاضتَي الحجارة والأقصى والوجود الإسرائيلي في جنوب لبنان، احتجاجاً على تورط دولة الاحتلال في المستنقَعين الفلسطيني واللبناني.
3. الضغوط الدولية الخارجية: كان واضحاً أن أحد مفاتيح نجاح خطة الانسحاب الإسرائيلي من غزة تمثل بما حظيت به من دعم دولي وإسناد أمريكي، سواء للتخفيف من حدة دعم هذه الدول لآخر الاحتلالات في العالم، أم باعتبار أن ذلك قد يعبّد الطريق نحو استئناف العملية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين على طريق حلّ الدولتين، الأمر الذي يعني بالضرورة ظهور معارضات دولية واسعة النطاق، بما في ذلك، وهذا غير مستبعد، من الإدارة الأمريكية، لأنه قد يعني عودة الى التاريخ أكثر من خمسين عاماً الى الوراء، حين تمّ احتلال القطاع في حرب سنة 1967.
اليوم، وفي ظلّ ما تحظى به دولة الاحتلال من توسع في علاقاتها الإقليمية، خصوصاً بعد اتفاقيات التطبيع، والدولية، سواء باستئناف مجلس الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، أم ترميم العلاقة مع دول كانت إلى عهد قريب مناصرة للقضية الفلسطينية مثل الصين والهند، سيكون صعباً على "إسرائيل" المخاطرة بهذه العلاقات أمام قرار عسكري لا تعرف مآلاته بدقة.
هنا يبدو الاستدراك مهماً، فالإسرائيليون يتحدثون بصوت عالٍ نسبياً عن ضرورة اقتلاع هذه الشوكة في خاصرتهم الجنوبية المسماة غزة، وتحديداً المقاومة المسلحة فيها، صحيح أن الكلفة البشرية باهظة، والخسائر العسكرية قد تكون فوق احتمال الرأي العام الإسرائيلي، لكن سيناريو اجتياح بيروت 1982 ما زال ماثلاً أمام الإسرائيليين، ويستشهدون به بين حين وآخر لأنه خلّصهم من كابوس منظمة التحرير الفلسطينية، وأراح المستوطنين في كريات شمونة والجليل من قذائف الكاتيوشا.
صحيح أن الظروف قد تكون مختلفة بين بيروت 1982 وغزة 2022، لكن دوائر التخطيط العسكري الإسرائيلي قد يكون في أدراجها خطة قتالية من هذا النوع، وبتفاصيل التفاصيل، بانتظار استدعائها من المستوى السياسي.
السيناريو الثاني: تسوية مقابل الهدوء:
يتمثل هذا السيناريو في إنجاز تسوية ما، أيّاً كان شكلها أو اسمها، مع القوة المسيطرة على غزة، وهي حركة حماس، ويحمل في طياته التوصل إلى هدوء أمني في القطاع يمتد إلى خمس أو عشر سنوات، مقابل تقديم جملة تسهيلات اقتصادية ومعيشية للقطاع المحاصر، والحقيقة أن هذه التسوية، بغض النظر عن الإطار الذي قد تأتي ضمنه، استحوذت على نقاشات ومداولات إسرائيلية عديدة، لا سيّما وأنها تأتي متزامنة مع دعوات "السلام الاقتصادي" الذي يجري تطبيقه في الضفة الغربية من قبل السلطة الفلسطينية والاحتلال، دون الإقرار بمسماه الحقيقي.[9]
هناك العديد من الدوافع والحوافز التي تدفع الاحتلال لاستنساخ هذا النموذج في غزة، على الرغم من اختلاف الظروف في بعض المناحي عن الضفة الغربية، ومن هذه الدوافع:
1. الحصول على هدوء أمني لعدة سنوات لم يتحقق منذ عقدين من الزمن، حين اندلعت انتفاضة الأقصى أواخر سنة 2000، وزادت حدة التوتر والتصعيد مع غزة بُعيد الانسحاب منها، ثم سيطرة حماس عليها، حيث أصبحت مفردة غزة عند الإسرائيليين تعني العنف والصواريخ والملاجئ و"الدم والعرق والدموع"، مما سيجعل من مثل هذه التسوية، في حال تحققت، فرصة لالتقاط الأنفاس لدى الاحتلال.[10]
2. اعتقاد الإسرائيليين أن عودة الانتعاش الاقتصادي إلى غزة بعد طول حصار ومعاناة، قد يسهم في ابتعاد الفلسطينيين رويداً رويداً عن مسار المقاومة، بداعي انصرافهم إلى تحقيق تطلعاتهم وأحلامهم الشخصية، مع أن ذلك لم يتحقق فعلاً في الضفة الغربية، فالمقاومة مستمرة فيها على الرغم من توافد عشرات آلاف العمال الفلسطينيين للعمل لدى المشغلين الإسرائيليين في الداخل المحتل، مع العلم أن الإسرائيليين[11] عوّلوا كثيراً على عدم انخراط حماس المباشر في المعركة الأخيرة التي شنها الاحتلال على غزة، باعتبارها واحدة من القناعات الجديدة لدى حماس، بزعم أن الحركة "بات لديها ما تخسره" في ظلّ سلسلة التسهيلات المعيشية المقدمة إلى سكان غزة.[12]
3. محاولة الاحتلال "سلخ" قطاع غزة عن المحور المعادي له في المنطقة، وتحديداً إيران وحلفاؤها. وبالرغم من أن المقاومة ترتبط بعلاقات وثيقة بإيران، لكنها في الوقت ذاته تؤكد أن قرارها وطني فلسطيني مستقل، وأنها ليست في جيب أحد من دول الإقليم، ومع ذلك تتطلع "إسرائيل" لأن تسهم هذه التهدئة التي قد يطول أمدها في إخراج قطاع غزة من حسابات إيران في حال تعرضت هي أو حلفاؤها لهجوم إسرائيلي ما.[13]
4. على المدى البعيد، قد يقدم هذا السيناريو للحلبة السياسية الإسرائيلية بعمومها، يمينها ويسارها ووسطها، طوق النجاة من تذكيرها الدائم بحل الدولتين مع الفلسطينيين، لأنه في مثل هذه الحالة سيصبح للفلسطينيين كيانان سياسيان، أحدهما تحكمه السلطة الفلسطينية فيما تبقى من الضفة الغربية، وثانيهما تسيطر عليه حماس في قطاع غزة، وفي هذه الحالة قد تتحرر "إسرائيل" من الضغوط الدولية التي تطالبها بالعودة إلى طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين.
في المقابل، وعلى الرغم مما قد يتاح أمام هذا السيناريو من فرص نجاح، لكن هناك ألغاماً في الطريق تعترض تحقيقه، مصدرها الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي، وربما الإقليمي أيضاً، المحيط بهما، على النحو التالي:
1. مهما حاول الاحتلال تغليف مثل هذه التسوية بالمسائل الاقتصادية والمعيشية والمطلبية، فإنه يعني في سطره الأخير إقراراً واعترافاً إسرائيلياً لا تخطئه العين بسيطرة حماس على غزة، بما يحمله ذلك من دلالات سياسية وعسكرية وحكومية، أي أنه يعني أكثر وضوحاً فشلاً إسرائيلياً ذريعاً بكل مخططات الإقصاء والعزل والإجهاض الذي مارسته دولة الاحتلال على حماس طوال أكثر من ستة عشر عاماً منذ فوزها في الانتخابات التشريعية 2006، ومعها العديد من الدول العربية والقوى الدولية، وفي مثل هذه الحالة ستجد حماس نفسها أنها في موقع المنتصر، على الرغم مما واجهته من سياسات قاسية ضربت في عصب قوتها وإدارتها للشأن العام في غزة، بل وآكلت من شعبيتها في الكثير من الأحيان.
2. في مثل هذه التسوية، وعلى الرغم من وجود انسجام كبير في المواقف الإسرائيلية وبعض العربية، خصوصاً المطبّعة منها، لكن مثل هذه التسوية التي تعني إقراراً بسلطة حماس وسيادتها، قد لا تجد قبولاً عند الدول العربية التي يأمل الاحتلال أن تدعم هذه التسوية مالياً واقتصادياً، لأن ذلك يعني إسهام هذه الدول، ومن مالها ولحمها الحيّ، في إحياء كيان سياسي عملت هي ذاتها في سنوات سابقة على قتله ووأده في مهده، مما سيضع عراقيل لوجستية ومادية أمام تحقيق هذه التسوية، وقد يدفع بـ"إسرائيل" لطلب دعم دولي وعالمي لها.[14]
3. إلى أن يتم تحقيق مثل هذه التسوية، فلا يعرف في ظلّ حالة الزئبقية التي تعيشها الحلبة السياسية الإسرائيلية، وعدم الاستقرار، مدى موافقة الحكومات الإسرائيلية القادمة على هذا الخيار، على اعتبار أن العادة جرت في السنوات الأخيرة ألا تحترم حكومة إسرائيلية قادمة تعهدات واتفاقات أبرمتها حكومات سابقة، وبالتالي فقد تأتي أي حكومة لاحقة، وتطوي صفحة هذه التفاهمات، وتعود إلى نقطة الصفر في العلاقة مع غزة.
4. هناك كابح فلسطيني داخلي بحت، ظهر في المواجهة الأخيرة التي شهدتها غزة، ومفاده أن حماس المسيطرة على القطاع، ربما لم تعد الجهة الوحيدة الحصرية التي تمسك بقرار المواجهة والتهدئة مع الاحتلال، حتى لو تمّ ذلك من خلال الغرفة المشتركة للأجنحة العسكرية الفلسطينية، وهذا يعني أنه في حال تمّ إبرام التسوية مع الاحتلال بوساطات عربية ودولية، بعد إنضاجها داخل الساحة الفلسطينية في غزة، فقد يبدي طرف فلسطيني ما اعتراضه عليها، وبالتالي يعمل بقرار أحادي على إفشالها، دون أن تستطيع حماس منعه من ذلك، خشية لتكرار نموذج السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
يمكن الحديث بكثير من الثقة أن مثل هذا السيناريو ربما أخذ طريقه للتنفيذ في ظلّ الأوضاع الاقتصادية الكارثية في القطاع، وخشية المقاومة من فقدان حاضنتها الشعبية، مما يدفعها للقبول بأي تحسينات معيشية مطلبية لسكان القطاع، دون أن يلزمها بوقف قدراتها العسكرية القتالية، بل تواصلها، دون الحاجة الدورية لاستخدامها عند كل حدث.
السيناريو الثالث: استمرار الاستنزاف:
منذ انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة سنة 2005، شرعت بتنفيذ عدوانات عسكرية عليه من حين لآخر، بعضها تحول إلى حروب استمرت أسابيع، وخلفت آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى، أهمها حرب كانون الأول/ ديسمبر 2008 – كانون الثاني/ يناير 2009، واستمرت 23 يوماً، وأسفرت عن 1,430 شهيداً فلسطينياً، و5,400 جريحٍ، وتدمير 10 آلاف منزل، فيما اعترف الاحتلال بمقتل 13 إسرائيلياً، وإصابة 300 آخرين، ثم جاءت حرب تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، واستمرت ثمانية أيام، استشهد فيها 180 فلسطينياً، وجرح 1,300 آخرين، فيما قتل 20 إسرائيلياً وأصيب 625 آخرون.
ثم شهد شهرا تموز/ يوليو وآب/ أغسطس 2014، حرب الواحد وخمسين يوماً، وأسفرت عن 2,322 شهيداً و11 ألف جريح، وقتل 72 إسرائيلياً، وأصيب 2,522 إسرائيلياً آخرين. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 شنت "إسرائيل" عدواناً استمر عدة أيام أسفر عن استشهاد 34 فلسطينياً، وجرح 100 آخرين. وفي أيار/ مايو 2021 هاجم الاحتلال قطاع غزة في حرب استمرت عشرة أيام أسفرت عن مقتل 12 إسرائيلياً وإصابة 330 آخرين، واستشهاد 250 فلسطينياً وإصابة 5 آلاف. وأخيراً عدوان آب/ أغسطس 2022 الذي استمر ثلاثة أيام، وأسفر عن استشهاد 24 فلسطينياً، وإصابة 200 بجروح مختلفة.[15]
هذا الرصد الإحصائي للعدوانات الإسرائيلية لا يتضمن مئات الهجمات الخاطفة التي شنتها طائرات الاحتلال ومدفعيته وبحريته باتجاه الفلسطينيين في القطاع، دون أن تمتد أكثر من أربع وعشرين ساعة، مما يجعل هذا السيناريو يحقق للاحتلال جملة أفضليات عسكرية عملياتية من أهمها:
1. مواصلة استنزاف قوى المقاومة انطلاقاً من سياسة "جز العشب" التي تتبعها قوات الاحتلال دون أن تضطر لخوض حرب شاملة.
2. إبقاء المقاومة في حالة الدفاع عن النفس بدلاً من التفكير في قرارات الهجوم والمباغتة.
3. تحويل الحياة في غزة إلى جحيم لا يطاق، و"تدفيع" الفلسطينيين ثمن احتضانهم للمقاومة.
4. إبقاء غزة بنظر الرأي العام العالمي على أنها نظيرة بؤر عسكرية مسلحة في العالم، لا تستحق الرعاية.
5. لا تستدعي مثل هذه العمليات ضغوطاً دولية على الاحتلال، لا سيّما في حال تمّ التحضير لها جيداً، وعملت ماكنته الديبلوماسية والدعائية جيداً جنباً إلى جنب مع الماكنة العسكرية القتالية.[16]
في المقابل، فإن استمرار هذا السيناريو لا يحوز على دعم دوائر واسعة في اتخاذ القرار الإسرائيلي، لعدة أسباب:
1. كما أن هذه الحروب والعمليات تستنزف المقاومة، فإنها تستنزف الاحتلال أيضاً، كماً ونوعاً: عسكرياً، واقتصادياً، وبشرياً.[17]
2. يمنح المقاومة فرصة تجريب قدراتها العسكرية التي لم تعد تمس مستوطنات الغلاف فقط، بل تمس عمق الكيان الإسرائيلي.
3. فقدان الإسرائيليين بين حرب وأخرى للأمن والهدوء، وتبديد شعارات دولة اليهود وملجئهم ومأواهم الأخير.
4. تسويق صورة "إسرائيل" المعتدية على المدنيين الفلسطينيين، وتراكم ملفاتها القانونية لدى محكمة الجنايات الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية.[18]
خلاصة هذا السيناريو أنه مرشح للاستمرار بين حين وآخر، ولعله يكون متصدّراً لأجندة القادة العسكريين الإسرائيليين، بعيداً عن خيار الحروب الطاحنة التي تستمر أسابيع طويلة، لأنهم استلهموا فكرة "المعركة بين الحروب" التي ينفذونها ضدّ التواجد الإيراني في سورية، ومحاولة وقف تنامي قوة حزب الله العسكرية، أي أنهم "يشنون عشرة هجمات جوية وبحرية وأرضية في العام الواحد، دون الحاجة إلى شنّ حرب ضارية واحدة كل عشر سنوات".[19]
السيناريو الرابع: التسوية والاستنزاف:
حين تضيق الخيارات الإسرائيلية باتجاه غزة، يمكن اللجوء إلى سياسة الدمج بين الخيارين الثاني والثالث، ولعله الأكثر ترجيحاً، كونه يوائم بينهما، ويحول دون دفع الاحتلال لأثمان باهظة على الصعيدَين البشري والعسكري، على الرغم من أنه لا يوفر الأمن الإسرائيلي المفقود حين تندلع أي مواجهة عسكرية مع المقاومة في غزة.[20]
في الوقت ذاته، يمكن ذهاب "إسرائيل" إلى هذا الخيار المزدوج بالجمع بين التسوية الاقتصادية والمعيشية لغزة، واستمرار استنزاف المقاومة فيها بين حين وآخر، كجزء من سياسة إدارة الصراع مع الفلسطينيين وليس حلّه، وهو النهج الذي اتبعته الحكومات الإسرائيلية فور انهيار مفاوضات كامب ديفيد بين الجانبين أواخر سنة 2000، ووصول الاحتلال إلى قناعة أن حلّ الصراع يستدعي منه تقديم ما يزعم أنها "تنازلات مؤلمة"، مما أوجد أرضية متوافق عليها بين مختلف الأوساط السياسية والحزبية باتباع هذه السياسة.
في الوقت ذاته، يعتقد الإسرائيليون أن المقاومة الفلسطينية لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذا السيناريو، طالما أنه لا يلزمها بشيء، أي أنه إذا قدَّم الاحتلال ما يدعي أنها تسهيلات معيشية لسكان غزة دون تعهد المقاومة بوقف أنشطتها العسكرية أو مراكمة قدراتها التسلحية، وفي الوقت ذاته فإن الاستنزاف الذي يسعى إليه الاحتلال ضدها، من المتوقع أن تقابله باستنزاف مضاد، وحينها سيعود الجانبان إلى الحالة ذاتها من المواجهة غير المتوقفة.[21]
على الرغم من ذلك، فإنه قد يكون الخيار الأكثر ترجيحاً كونه لا يستدعي من الجانبين التعهد بأي التزامات خطية أو مكتوبة، بل يبقي أيديهما طليقة تجاه الطرف الآخر، دون أن تتوفر ضمانات بألا تنزلق الأمور مجدداً إلى الخيار الأول الذي تخشاه كل الأطراف، وتبتعد عنه قدر الإمكان.
خاتمة:
لا يزعم كاتب هذه السطور أن هذه الخيارات الأربعة الوحيدة المتاحة بين يدي صناع القرار الإسرائيلي تجاه غزة، فقد تكون هناك سيناريوهات واحتمالات أخرى، لكن هذه الورقة اجتهدت في تلخيص أهم الخيارات، واستعراض دوافعها وكوابحها، وترجيح أي منها الأكثر احتمالية للتنفيذ.
في المقابل، لم تعد "إسرائيل" صاحبة اليد الطليقة في غزة، فالمقاومة باتت لها يد طولى في تطور الأوضاع فيها، والإسرائيليون يدركون أن أي خيار من الواردة أعلاه سيكون له تأثيراته المباشرة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وهو أمر يأخذونه بعين الاعتبار، بعد أن تحولت هذه الجبهة إلى نقطة ضعف مصيرية في أي استعدادات يتحضر لها جيش الاحتلال لشنّ أي عدوان على غزة.
الخلاصة أن قادم الأيام قد لا يحمل في طياته خياراً واحداً مباشراً وفورياً لتطبيقه على غزة، لكن ربما يجمع أو يراوح الاحتلال بين بعض هذه الخيارات، ريثما تتوفر الظروف الميدانية في غزة ولدى الاحتلال للشروع في خيار أساسي محدد، مع أن ما تعيشه دولة الاحتلال من حملة انتخابية حامية الوطيس ربما تنتهي أو لا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، يجعلها تدير الأوضاع في غزة مؤقتاً بصيغة "المياومة" بدلاً من الذهاب إلى خيارات استراتيجية حاسمة