اللقاء الملكي في قصر الحسينية مع رؤساء الوزراء السابقين، ضمن سلسلة اللقاءات التي تهدف لمناقشة التحديات والاستماع لقادة الرأي عن تصوراتهم للحلول المقترحة، قد حفلت بالعديد من المحاور الوطنية، ولكنني سأتوقف على اطلالة طرحين مهمين وردا على لسان دولة الدكتور عبد الرؤوف الروابدة، ودولة الدكتور عون الخصاونة، والمتعلقة بقلق محدق يحاصر ملفات التعليم والصحة والإدارة، بسبب التراجع الواضح بالأداء والنتيجة، لأننا أمام مرآة الحقيقة التي تتطلب جرأة الاعتراف للتشخيص، تمهيدا للحلول بمختلف مسمياتها ومضاعفاتها، فنحن نعاني وننزف بقالب الهلاك، نتراجع على سلم الخدمات ونتسلح بقائمة من الأعذار التي انتهت صلاحيتها وشخوصها التي أوصلتنا لشيخوخة مبكرة بسبب الأنانية وعدم الاختصاص، والتي تحاول حشر ذاتها حتى الساعة وإيجاد مقعد متقدم لطرح الحلول من مبدأ إثبات الذات، ضمن قالب المعرفة والإبداع لعبقرية مكتسبة بظروف غابرة.
علينا الاعتراف سلفا بتراجع المستوى التعليمي؛ المدرسي والجامعي، أداءً ونتيجة مقارنة بالعقود السابقة، وتعتبر فترة منتصف القرن الماضي هي الفترة الذهبية للأداء، حيث التكامل بين أركان العملية التدريسية؛ المدرسة، المناهج، والطلبة، بدعم غير محدد من الأهل، فالطالب يذهب للمدرسة والجامعة بهدف كسب المعرفة وأسس التفكير لصقل الموهبة التي تجعل منه انسانا منتجا، والمعلم بشموخ وكبرياء، يقدم ما لديه ليقرب المسافات مع طلبته بفخر، فيروي ظمأ غراسهم لإنتاج ثمار ذات قيمة مجتمعية ووطنية، تخلو من الأنانية بل تعتمد على رصيد من الحب والعطاء، يعكس قيم التسامح والود، وكل ذلك ضمن منهاج منقح ومدروس يناسب الفترة العمرية بتدرج معرفي، يرسخ المعلومة في فكر الطالب ويسمح بهامش اجتهاد لتحديد ملامح المستقبل لمهنة تكاملية، فكان المعلم رسولا ذات مكانة اجتماعية غير منافسة، ولن يسمح بالاقتراب منها أو العبث بدستورها.
تداخلت الأمور التعليمية والتربوية بتحديثات هبطت بمنطاد تغيير لم نعرف عرابه حتى الساعة، فتغيرت السلوكيات الفردية لأطراف المعادلة، وأصبح الاهتمام بالكلمة والمعرفة في ذيل الأولويات الشخصية للأفراد؛ فالأنانية وحب الذات قد أصبحت العنوان والمحتوى؛ وأصبحت البدائل تتقدم للصفوف الأمامية بدأت بمصطلحات جديدة مثل الدروس الخصوصية، مدارس الفترين، الانتساب للجامعة، تغيير المناهج، نسف جذري لوسائل التقييم والامتحانات، أولوية أصحاب الصفوف الخلفية على أصحاب الصفوف الأولى، تضخيم وتوالد غير منظم بالمدارس والجامعات الخاصة لمبررات ركيكة لا ترقى لمستوى القبول العقلي، بل والمذبحة الكبرى للتعليم بتولي قيادات تربوية للمسيرة التربوية من خارج الجسم التعليمي الذي يدرك ويعلم إحداثيات العملية التعليمية بكل تفاصيلها، فأصبحت الخطط والبرامج والتغيرات هي حصرية وحصرية فقط بقرار الوزير المسؤول العابر للوظيفة، بتجاوز متعمدٍ للمجالس ذات الاختصاص ومباركة منها، مستندا للصلاحيات المطلقة التي تمنحه سيف القوة للتنفيذ ونحر كل معارض على قائمة التقاعد أو الاستيداع.
النتيجة المؤسفة اليوم أن واقعنا التعليمي مقلق ولا يبشر بالخير للمستقبل، بالرغم من جهود مبشرة تبذل من معالي الوزير الحالي الذي يحاول أن يكون بموقع متوسط بين أتون الواقع المرير وبين الرؤية الوطنية للمستقبل الذي يليق بنا كدولة نامية متعلمة تمتلك القدرات المؤهلة للمنافسة على مركز تربوي متقدم، خصوصا أنه ورث ملفا تربويا وتعليميا متشعبا غير محدد المحتوى والزمن، توالى على خلط أوراقه العديد من أصحاب الرأي والرأي الآخر، دون رؤية وخطة، بل بفرضية اجتهاد، بعضها مدمر لولا ظروف الطبيعة والقدر، وقد بدأت أوائل ملامح التغيير بقرارات ذات نكهة شخصية بأبعاد وطنية، بتقنين الاعتراف بالمدارس الخارجية التي تمنح شهادات الدراسة لمن أخفق هنا مقابل أرقام مادية، تؤهله للمنافسة الجامعية، كما أن هناك قرارا تربويا وتعليميا، استحق الدرجة الكاملة بتحديد الحد الأدنى لمعدل الثانوية العامة للدراسة خارج الوطن بالتخصصات المقارنة هنا، حتى لا يكون هذا التحايل سببا للنزف الحاصل بالمستوى المهني، وسوف نتابع الحديث عن المناهج المدرسية، امتحان الثانوية العامة، أسس القبول الجامعي، أنواع القبول الجامعي، لأن التعليم الجامعي قد يدخل غرفة الانعاش دون إجراء تشخيصي وعلاجي، وللحديث بقية.