مع انفجار الحرب الروسية - الأوكرانية في آخر فبراير (شباط) من هذا العام، حبس العالم أنفاسه رُعباً، خصوصاً وقد تزامنت معها الأحاديث العالية باستخدام الأسلحة غير التقليدية، والإشارة هنا إلى النووية، التي ذكرت العالم بما عرف بالعصر الجليدي المقبل. مع مرور الأسابيع وحتى الأشهر تراجع ذك الخوف، كي يبقى العالم يشاهد على محطات التلفزة تقدم أو تراجع تلك الحرب، مع ما يصاحبها من أهوال إنسانية فظيعة.
اليوم يبدو أن الأمور ليست كما توقع لها في البداية، ما زال هناك (شيء من العقل) لدى الإنسان، وبدا أن الغرف الخلفية بدأت تعمل. خبر لم يتوسع حوله في الإعلام كان عن اجتماع رئيس الأركان الروسي بالأميركي عن بعد، وكل ما قيل علناً إن الطرفين اتفقا (على ألا يقال أي تفصيل حول ذلك الاجتماع)، ثم توالت الإشارات، فصرح الفرنسيون بأن أوكرانيا تحتاج من عشر إلى خمس عشرة سنة للدخول في التجمع الأوروبي (وليس في حلف الأطلسي)، كما أن الرئيس الأوكراني بدا بتصريحات تتحدث على أن الحل لا يمكن إلا أن يكون من خلال المفاوضات، وتجاوب معه الروسي، إذا أضفنا إلى ذلك تصريح المستشار الألماني (لا مصادرة لأموال الروس، وعليهم طوعاً التبرع لإعمار ما هدم في أوكرانيا) تقريباً تكتمل الصورة التي تتشكل في خلفية الصراع.
معالم الحل في الصراع أصبحت حدودها واضحة، وقد تجري على مسارات متعددة من خلال مفاوضات تتعدى ربما الأوكرانيين، وتُطبخ في الحجرات الخلفية للقوى الكبرى، كما تعود العالم بعد الردع النووي أن يشاهد.
الخطوط العريضة هي أن تحتفظ روسيا بجزء من أوكرانيا بجانب جزيرة القرم السابقة، وتبقى بقية أوكرانيا دولة ليبرالية قد تنضم إلى المجموعة الأوروبية الاقتصادية في وقت ما، ولكن ليس إلى حلف الأطلسي. تكون روسيا قد حققت بعض المكاسب، ولكنها استمعت إلى درس مفاده (إلى هنا وفقط)، أي أن فكرة إعادة الإمبراطورية السوفياتية يتوجب أن تنسى، فخطوات ضم أراضي بعض من دولة جورجيا ومن ثم جزيرة القرم والتدخل في سوريا وإنشاء قواعد لها هناك، والتدخل في بعض دول أفريقيا، وأخيراً بعض أجزاء أوكرانيا، كل ذلك هو ما يجب أن يتوقف عنده الطموح الروسي، وهو أيضاً ما يستطيع الغرب أن يتسامح معه، لقد ذهبت روسيا إلى المستقبل وهي تحمل عبء الماضي، لم يعد ذلك ممكناً تاريخياً.
أما الغرب فإنه حقق انتصاراً أيضاً بأن منع (بلع) أوكرانيا وأوقف الزحف الروسي والتمدد الذي كان محتملاً أن يستمر في الجوار، لأن العملية العسكرية ظهرت أنها أكبر من ثمنها بالنسبة للروس وأيضاً للغرب.
يبقى التعامل مع الملفات الأخرى التي نشأت من فعل الغزو نفسه، خصوصاً في القطاع الاقتصادي، وهي ملفات ليست هينة، ربما سوف يستمر الضغط الاقتصادي ومصادرة الأموال من أجل استمرار تذكير موسكو بأن اللعبة لم تعد تحمّل تكاليفها. فاستمرار دول الغرب أو عودتها للاعتماد على الطاقة الروسية سوف يقلل إلى درجة عدم التأثير على اقتصادها في المستقبل وعلى الاقتصاد العالمي، كما أن تمويل الاتحاد الروسي بالتقنية الحديثة سوف يمنع أو يكون في أدنى مستوياته، تذكيراً بأن حدود السماح لروسيا للدخول في السوق الرأسمالية قد انخفضت!
هذا السيناريو ماذا يعني؟ في الغالب هو سيناريو نقيض لسيناريو صمويل هنتنغتون، الذي ضجت النخب في فضائنا الشرقي بترديده في السنوات الأخيرة حتى اعتقدت أنه صحيح. هنا انقلبت فكرة (صراع الثقافات) التي قال بها هنتنغتون إلى (صراع الإمبراطوريات) الذي لم يعد له مكان في التاريخ، فالجرح الغائر لدى النخب الروسية بخسارة الإمبراطورية السوفياتية، والتي هي امتداد للإمبراطورية الروسية التاريخية القديمة، وخروج خمسة عشر كياناً سياسياً مستقلاً أو شبه مستقل عنها، هو جرح لا يندمل في مخيلة النخب الحاكمة بالاتحاد الروسي اليوم، تحتاج إلى أجيال حتى تتخلص منها، وأيضاً إلى أوضاع اقتصادية - سياسية مناسبة، لم تتهيأ بعد، حرب أوكرانيا هي بداية التعافي من ذلك الجرح.
لدى روسيا اليوم تحالف فضفاض مع بعض جيرانها الذين كانوا جزءاً من الإمبراطورية السابقة، وهو تحالف تتشابه فيه أنظمة الحكم، بصورة عامة هي أنظمة شمولية تجري فيها (انتخابات) يعاد انتخاب الرئيس فيها مرة بعد أخرى. إلا أن بعضها شهدت في الآونة الأخيرة (انتفاضات) كما في بيلورسيا (روسيا البيضاء)، وأيضاً كازاخستان وقيرغيزستان، وكلها انتفاضات تدل على شوق تلك الشعوب إلى التحرر.
بالطبع يجمع روسيا مع بعض دول الجوار ما يعرف بمعاهدة الأمن الجماعي، ونصوصها تسمح بأن تتدخل روسيا في أي (اضطرابات داخلية)، والتي هي في الغالب مقبلة من تطلع شعوب تلك المناطق إلى أن تعيش في أنظمة سياسية مرنة، لديها قدرة على تحقيق التنمية وحدود دنيا من حقوق الإنسان معاً. إلا أن حدود التدخل في المستقبل تضيق.
دفع الغرب في الأشهر الأخيرة مبالغ مالية ضخمة تقدر في مجملها بمائة مليار دولار لمساعدة أوكرانيا أو لضبط التوسع الروسي. كما سوف يدفع مبالغ طائلة أخرى من أجل إعمار الدولة المنكوبة، في الوقت نفسه تصاعد التضخم في الاقتصاديات الغربية إلى حد دفع المواطنين في عواصم غربية كثيرة إلى الشوارع محتجين على الأوضاع، وأصبحت كُلف المعيشة في عدد واسع من الدول تصل إلى حد دفع بقطاع واسع من السكان إلى حافة الفقر، كما بدأت مصادر الغذاء تنذر بحدوث مجاعات عير مسبوقة، ما يهدد بهجرات إنسانية ضخمة من دول العوز.
إذن هي حرب رغم محدوديتها المكانية فإنها عالمية بمعنى من المعاني، لا يستطيع العالم أن يستمر في مثل تلك المغامرات، لأنها إن تكررت قد تدفع الشعوب حكوماتها إلى الذهاب لمعادلات صفرية توصل الإنسانية إلى ما ترتعب منه وهو (الشتاء النووي)!
بقاء روسيا والغرب بين منزلتين لا طلاق ولا زواج ناجح، يؤذن بعد الأزمة الأوكرانية بعقد زواج جديد وبشروط جديدة.
آخر الكلام:
ماذا عن الدول التي تقف الآن على الحياد؟ هل ستكون من بين الخاسرين،؟ فالحياد بدأ أهله في هجره كما في فنلندا والسويد وحتى سويسرا.
اليوم يبدو أن الأمور ليست كما توقع لها في البداية، ما زال هناك (شيء من العقل) لدى الإنسان، وبدا أن الغرف الخلفية بدأت تعمل. خبر لم يتوسع حوله في الإعلام كان عن اجتماع رئيس الأركان الروسي بالأميركي عن بعد، وكل ما قيل علناً إن الطرفين اتفقا (على ألا يقال أي تفصيل حول ذلك الاجتماع)، ثم توالت الإشارات، فصرح الفرنسيون بأن أوكرانيا تحتاج من عشر إلى خمس عشرة سنة للدخول في التجمع الأوروبي (وليس في حلف الأطلسي)، كما أن الرئيس الأوكراني بدا بتصريحات تتحدث على أن الحل لا يمكن إلا أن يكون من خلال المفاوضات، وتجاوب معه الروسي، إذا أضفنا إلى ذلك تصريح المستشار الألماني (لا مصادرة لأموال الروس، وعليهم طوعاً التبرع لإعمار ما هدم في أوكرانيا) تقريباً تكتمل الصورة التي تتشكل في خلفية الصراع.
معالم الحل في الصراع أصبحت حدودها واضحة، وقد تجري على مسارات متعددة من خلال مفاوضات تتعدى ربما الأوكرانيين، وتُطبخ في الحجرات الخلفية للقوى الكبرى، كما تعود العالم بعد الردع النووي أن يشاهد.
الخطوط العريضة هي أن تحتفظ روسيا بجزء من أوكرانيا بجانب جزيرة القرم السابقة، وتبقى بقية أوكرانيا دولة ليبرالية قد تنضم إلى المجموعة الأوروبية الاقتصادية في وقت ما، ولكن ليس إلى حلف الأطلسي. تكون روسيا قد حققت بعض المكاسب، ولكنها استمعت إلى درس مفاده (إلى هنا وفقط)، أي أن فكرة إعادة الإمبراطورية السوفياتية يتوجب أن تنسى، فخطوات ضم أراضي بعض من دولة جورجيا ومن ثم جزيرة القرم والتدخل في سوريا وإنشاء قواعد لها هناك، والتدخل في بعض دول أفريقيا، وأخيراً بعض أجزاء أوكرانيا، كل ذلك هو ما يجب أن يتوقف عنده الطموح الروسي، وهو أيضاً ما يستطيع الغرب أن يتسامح معه، لقد ذهبت روسيا إلى المستقبل وهي تحمل عبء الماضي، لم يعد ذلك ممكناً تاريخياً.
أما الغرب فإنه حقق انتصاراً أيضاً بأن منع (بلع) أوكرانيا وأوقف الزحف الروسي والتمدد الذي كان محتملاً أن يستمر في الجوار، لأن العملية العسكرية ظهرت أنها أكبر من ثمنها بالنسبة للروس وأيضاً للغرب.
يبقى التعامل مع الملفات الأخرى التي نشأت من فعل الغزو نفسه، خصوصاً في القطاع الاقتصادي، وهي ملفات ليست هينة، ربما سوف يستمر الضغط الاقتصادي ومصادرة الأموال من أجل استمرار تذكير موسكو بأن اللعبة لم تعد تحمّل تكاليفها. فاستمرار دول الغرب أو عودتها للاعتماد على الطاقة الروسية سوف يقلل إلى درجة عدم التأثير على اقتصادها في المستقبل وعلى الاقتصاد العالمي، كما أن تمويل الاتحاد الروسي بالتقنية الحديثة سوف يمنع أو يكون في أدنى مستوياته، تذكيراً بأن حدود السماح لروسيا للدخول في السوق الرأسمالية قد انخفضت!
لدى روسيا اليوم تحالف فضفاض مع بعض جيرانها الذين كانوا جزءاً من الإمبراطورية السابقة، وهو تحالف تتشابه فيه أنظمة الحكم، بصورة عامة هي أنظمة شمولية تجري فيها (انتخابات) يعاد انتخاب الرئيس فيها مرة بعد أخرى. إلا أن بعضها شهدت في الآونة الأخيرة (انتفاضات) كما في بيلورسيا (روسيا البيضاء)، وأيضاً كازاخستان وقيرغيزستان، وكلها انتفاضات تدل على شوق تلك الشعوب إلى التحرر.
بالطبع يجمع روسيا مع بعض دول الجوار ما يعرف بمعاهدة الأمن الجماعي، ونصوصها تسمح بأن تتدخل روسيا في أي (اضطرابات داخلية)، والتي هي في الغالب مقبلة من تطلع شعوب تلك المناطق إلى أن تعيش في أنظمة سياسية مرنة، لديها قدرة على تحقيق التنمية وحدود دنيا من حقوق الإنسان معاً. إلا أن حدود التدخل في المستقبل تضيق.
دفع الغرب في الأشهر الأخيرة مبالغ مالية ضخمة تقدر في مجملها بمائة مليار دولار لمساعدة أوكرانيا أو لضبط التوسع الروسي. كما سوف يدفع مبالغ طائلة أخرى من أجل إعمار الدولة المنكوبة، في الوقت نفسه تصاعد التضخم في الاقتصاديات الغربية إلى حد دفع المواطنين في عواصم غربية كثيرة إلى الشوارع محتجين على الأوضاع، وأصبحت كُلف المعيشة في عدد واسع من الدول تصل إلى حد دفع بقطاع واسع من السكان إلى حافة الفقر، كما بدأت مصادر الغذاء تنذر بحدوث مجاعات عير مسبوقة، ما يهدد بهجرات إنسانية ضخمة من دول العوز.
إذن هي حرب رغم محدوديتها المكانية فإنها عالمية بمعنى من المعاني، لا يستطيع العالم أن يستمر في مثل تلك المغامرات، لأنها إن تكررت قد تدفع الشعوب حكوماتها إلى الذهاب لمعادلات صفرية توصل الإنسانية إلى ما ترتعب منه وهو (الشتاء النووي)!
بقاء روسيا والغرب بين منزلتين لا طلاق ولا زواج ناجح، يؤذن بعد الأزمة الأوكرانية بعقد زواج جديد وبشروط جديدة.
آخر الكلام:
ماذا عن الدول التي تقف الآن على الحياد؟ هل ستكون من بين الخاسرين،؟ فالحياد بدأ أهله في هجره كما في فنلندا والسويد وحتى سويسرا.