الصورة التي التقطت للزعيم التركي إردوغان يحتضن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان تختصر المشهد، وتستعيد تفاصيله، وفي ابتسامة بن سلمان بالصورة التي راجت بوح لا يخفى أنه خرج من المعركة منتصرا، بعد أن كان متهما، ورأسه مطلوبا.
وفي الصورة أيضا، يظهر الرئيس إردوغان بتعابير ملتبسة، والمؤكد ليس فيها ما يقول، إنه سعيد، وفرح بلقاء من ناصبه العداء، وكأنه مضطر لتجرع "الكأس"، والقبول بالانكسار، والانحناء للعاصفة.
استدارة كاملة في علاقات أنقرة، هذا ما يفعله على أرض الواقع إردوغان، وهو يحث الخطى سريعا لتكريس سياسة "صفر خصوم"، ولا يواري الزعيم التركي هذه التوجهات، ويقول للإعلام بعد زيارته للرياض إنها "مرحلة كسب الأصدقاء وليس خلق أعداء".
في براغماتية منقطعة النظير يسابق إردوغان الزمن لإخماد الحرائق، وكلما تعمقت أزماته الاقتصادية سارع لفتح الأبواب الموصدة، فالمصالح مقدمة على الشعارات، والمبادئ.
قبل الرياض كان إردوغان يغلق ملف الخلاف مع الإمارات، واستقبلت إسطنبول ولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد، وبعد المحطة السعودية فإن الرهان أن لا يطول الانتظار ليكون الرئيس التركي ضيف الشرف في القاهرة.
لا توجد خطوط حمراء، أو تابوهات محرمة في السياسة التركية هذه الأيام، وما كان مستحيلا عند من أسبغوا طابع "القدسية" على المواقف، والتوجهات العثمانية أصيبوا بخيبة أمل، فإردوغان النجم الإسلامي الذي غادر منصة منتدى دافوس احتجاجا على كلام الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، واتهمه بقتل الناس في فلسطين، وحظي بشعبية غير مسبوقة في عالمنا العربي بسبب هذا التصرف، وتزايدت شعبيته بشكل يفوق التوقعات أكثر حين سير أسطول الحرية لكسر الحصار على غزة، وما تبعها من صدامات مع إسرائيل أودت بحياة أتراك كانوا على متن سفينة مرمرة، يفتح أبواب قصره بكامل البروتوكولات لزيارة الرئيس الإسرائيلي، ومؤيدوه هنا وهناك في بلادنا يبتلعون ألسنتهم.
الخلافات التركية مع بعض العواصم العربية لم تصعد إلى السطح اليوم، بل تنامت، وترسخت طوال سنوات ما سمي "الربيع العربي"، فالرئيس إردوغان ناصر زعماء "الإسلام السياسي" الذين وصلوا للسلطة منذ عام 2011، فانحاز إلى حزب النهضة في تونس، ووقف بقوة مع الرئيس محمد مرسي في مصر، وندد بما اعتبره انقلابا على الشرعية في القاهرة، وكان واضحا أن إسطنبول تلعب في كل الأوراق العربية، وتطمح لتصبح اللاعب السياسي الأول إقليميا، فماذا يمنع أن تكون القائد للأغلبية السنية في مواجهة إيران الشيعية التي تمددت في النسيج الاجتماعي، وباتت تحكم زمام الأمور في بغداد، وبيروت، ودمشق؟
الأزمات التركية مع الدول العربية، وخاصة مع الخليج تناسلت، ولم تتوقف عند حدود دعم أنقرة للإسلام السياسي (الإخوان المسلمين) تحديدا الذي صنفته الرياض تنظيما إرهابيا، وإنما تشعبت، وتمددت، وكانت الأزمة القطرية الخليجية ذروة الخلافات، فالدوحة استغاثت بإردوغان لينجدها، ويناصرها، وما هي إلا أيام وأسابيع حتى كانت القوات العسكرية التركية ترابط في الأراضي القطرية، وتربط بجسر جوي مع إسطنبول أمدها بكل احتياجاتها من الغذاء والدواء.
وكان مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية الشعرة القاصمة، فالقيادة التركية بدءا من إردوغان وجهت أصابع الاتهام بمقتله للقيادة العليا السعودية، وعلى الأخص ولي العهد السعودي، ورغم أن أنقرة ليست الوحيدة التي شنت هجوما على السعودية بعد مقتل خاشقجي، إلا أن تركيا نظر لها باعتبارها المخلب الذي استخدم سياسيا، وقضائيا لمحاصرة بن سلمان، وأخذه إلى حافة الهاوية.
الحرائق التي أضرمت منذ الربيع العربي، وما أعقبها في أزمتي قطر وخاشقجي أحرقت كل الجسور بين أنقرة والرياض، وهناك عواصم عربية عديدة روجت أن إردوغان يحلم باستعادة مجد الإمبراطورية العثمانية في بلاد العرب.
بعد عشرية سوداء في العالم العربي لم يتوصل إردوغان وحده إلى أن محاولات الهيمنة تقود إلى طريق مسدود، وسلسلة من الإخفاقات، فالرياض كذلك أعادت تقييم سياساتها في العقد المنصرم، فالنتيجة في اليمن بعد سنوات من الحرب تؤكد أنهم عالقون بلا تقدم، وفي بيروت اختارت السعودية الاستنكاف، والانسحاب من المشهد، وتراجعت مع دول الخليج عن مهمة تغيير نظام الحكم السوري، وتعايشت معه باعتباره أمرا واقعا، والمكاسرة السياسية مع طهران، وحروب الوكالة في بقاع مختلفة لم تثمر نصرا لأحد.
لا غالب ولا مغلوب بعد سنوات من القطيعة بين أنقرة والرياض، لكن تركيا بزعامة إردوغان تقرأ المستقبل، وتعلم أكثر من غيرها أن المقاطعة الخليجية أضرت بها، فالعملة التركية في انهيار، والاقتصاد يواجه تحديات، والسياحة المورد الأساسي للدخل القومي تضررت بعد عامين من جائحة كورونا، وجاءت الحرب الروسية على أوكرانيا "لتزيد الطين بلة"، وتضع العالم أمام أزمتي طاقة وغذاء.
استدارت تركيا، واستدارت الرياض، وتلاقيا وتصافحا، ولا يهم إن كان الأمير محمد بن سلمان يظن أنه الفائز، ما دام إردوغان يريد إطفاء الحرائق، ويسعى لانتشال نظامه من الغرق اقتصاديا، ويفكر بالنصر في الانتخابات التركية القادمة بعد أكثر من عام بقليل.
سيكمل إردوغان طريقه في المصالحات، وسيعبد الطريق بمعالجات ليست شعبية عند أنصاره، ومعجبية في العالم العربي، فقوة حكمه، وتماسكه أهم بكثير، والوصول لمحطة القاهرة، وطي صفحة الخلاف مع الرئيس السيسي تتطلب قطعا أكثر وضوحا مع قيادة الإخوان المسلمين، والمعارضين المصريين، وإبلاغهم بفصيح العبارة، إسطنبول لم تعد ملاذا آمنا لهم، وهذا بدأ، وقد لا يطول الأمر حتى يصبح مكشوفا، ولا يمكن إنكاره.
تركيا تعيد تموضعها من جديد، وزعماء العالم العربي جلهم يعرفون "لا بد من إسطنبول وإن طال السفر"، فلا غنى عنها، وتعيد ترسيم التوازن الإقليمي مع إيران حين يصبح ظهرهم مكشوفا، بعد أن انطبق المثل الشعبي "المتدفي بواشنطن بردان" في إشارة لتخليها عن حلفائها.