باعتقادي أن البنوك المركزية قد تأخرت كثيراً في إصدار عملاتها الرقمية الرسمية CBDC وأعطت فرصة هائلة للعملات الافتراضية المشفرة cryptocurrencies لقضم حصص أكبر من المعاملات الرقمية، سواء على شكل مدفوعات أو تحويلات على مستوى العالم.
وما زال العالم بمرحلة نقاش جدلي كبير حول جدوى اصدار العملات الرقمية وخاصة الافتراضية المشفرة منها، والتي لا يستطيع الوصول اليها وامتلاكها واستخدامها كوسيلة دفع أو للاستثمار الا فئة معينة من الأشخاص ذوي القدرات الخاصة بتفكيك الشيفرات وحل اللوغارثيمات أو الخوارزميات.
مرة أخرى أقول: إن البنوك المركزية تأخرت كثيرا جداً في اصدار عملاتها الرقمية الرسمية، فأول عملة رقمية افتراضية مشفرة صدرت عام 2008 وهي البيتكوين لتتبعها مئات لا بل آلاف العملات الافتراضية المشفرة، وانتظرت البنوك المركزية 12 عاما لاصدار أول عملة رقمية رسمية، هي «الدولار الرملي»، وكان من قبل البنك المركزي لجزر الباهاما في شهر تشرين الأول عام 2020. وتبعه بنوك مركزية قليلة في دول أخرى لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، مثل نيجيريا في تشرين أول 2021 والصين في كانون الثاني 2022. فجاء الظهور الأول لليوان الصيني ا?رقمي للمستخدمين العالميين خلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي بدأت في كانون الثاني 2022 بعد أكثر من عام من الجولات التجريبية في حوالي اثنتي عشرة منطقة في جميع أنحاء الصين.
الأمر كله متعلق بمن له السلطة باصدار النقود بمختلف أشكالها في الاسواق العالمية، ومن له السلطة للسيطرة على كمياتها، وأشكالها، والأهم من له السلطة للسيطرة على مجمل عرض النقد، أي السيولة، في الأسواق العالمية؟! والجواب القاطع هو البنوك المركزية، اذا ما اردنا التحكم بالاستقرار المالي والنقدي في الاقتصاد.
قد يكون الإدخال الحتمي للعملات الرقمية للبنك المركزي هو التغيير التاريخي والأكثر جوهرية في النظام المالي العالمي منذ اتفاقية بريتون وودز.
في أي حال، يمكن للعملات الرقمية للبنوك المركزية تجديد النظام المالي العالمي بالكامل كما نعرفه. لديها القدرة على تغيير وجه التمويل، وفي النهاية تغيير طبيعة المال نفسه. من خلال عملات البنوك المركزية الرقمية، ستصبح النقود الورقية رقمية بالفعل وستنهي الدمج بين السياسة النقدية والمالية.
إن تأخر إصدار العملات الرقمية الرسمية يعني قبول العملات الافتراضية المشفرة على نطاق أوسع لتكون بديلة لأموال البنوك المركزية الورقية الرسمية وحسابات البنوك الالكترونية، مما يقلل الحاجة الى النقد الرسمي اللازم لإجراء المعاملات الناتجة عن الاقتصاد الحقيقي. وهذا أمر خطير لانه سيقلل من حجم ميزانيات البنك المركزي وقدرتها في التأثير على أسعار الفائدة قصيرة الأجل وقدرتها في التأثير على دورة الاعمال في الاقتصاد الحقيقي.
كما ان هناك حاجة ماسة لتسريع اصدار العملات الرقمية الرسمية لتعزيز التوجه نحو الاقتصاد الرقمي، فاستمرار غياب تلك العملات يعطي المجال لسيطرة العملات الافتراضية المشفرة على اكبر حجم من المعاملات في الاسواق وخاصة في ظل غياب الرقابة عليها من أية جهات رسمية بالاضافة لاحتمالية استخدامها لاغراض أخرى غير شرعية كغسل الاموال وتمويل الإرهاب.
وسؤال المليون هو: هل يجب أن تستمر البنوك المركزية باصدار النقد؟ اذا كان الجواب بنعم، وهو كذلك لانه جزء من رمز الدولة واستقلالها. اذن، وكخطوة أولى، فلنصدر جزءاً من النقد المصدر currency issued الخاص بالبنك المركزي بعملة رقمية، بمعنى لنسرع اصدار «الدينار الرقمي» Digital Dinar، فيجب أن يرى المتعاملون بالاقتصاد «عملات رقمية رسمية»، فهذه الخطوة ستعزز ثقة الناس بالاقتصاد الرقمي. ولنحسم اجابات الاسئلة المطروحة من حيث أن العملة الرقمية الرسمية ستكون على مستوى الاستخدام الفردي (التجزئة) أو الجملة، ام كليهما، وهل ستكون أقرب للنقد الرقمي أم عملة حسابية رقمية، وهل سيتم تقديمها عبر البنية التحتية المصرفية الحالية أو عبر تقنية دفتر الأستاذ الموزع وسلسلة الكتل blockchain. أما اذا كان الجواب بلا، فلنترك السوق للقطاع الخاص لاصدار العملات الرقمية الرسمية والمشفرة وخلق السيولة، ولكن بشرط. والشرط هو ان يعلم البنك المركزي بحجم النقد المصدر في السوق وجهة اصداره لحظة بلحظة، ليتمكن من ادارة السيولة في الاقتصاد ولاعطاء أوامره بحجم الكتلة النقدية المناسبة في الاقتصاد ليتمكن من تحقيق الاستقرار النقدي والمالي (بمعنى استقرار الاسعار بكافة أشكالها). ولنتخيل الزمن بعد 10 إلى 20 عاماً، فكل المعاملات ستكون رقمية وكامل عمليات الدفع ستكون الكترونية بالعملات الرقمية ومن خلال الحسابات الالكترو?ية والعملات الافتراضية المشفرة.
باعتقادي أن العملات الافتراضية المشفرة باقية والراغبين بالتعامل معها يتزايدون طالما ان العملات الرقمية الرسمية لا تزال غير موجودة على نطاق واسع.
الراغبون برؤية عملات رقمية رسمية صادرة من البنوك المركزية ينتظرون على أحر من الجمر، فلنسرع باصدار تلك العملات، ولنسرع بإصدار «دينارنا الرقمي».