لقد أغنت الوصية التي أنبأت بها الزوجة عن كل كلمات الوفاء والولاء وأبيات الشعر وعرائض النثر، فالرجل الذي مات غريباً في العاصمة النمساوية فيينا عن عمر ناهز السبعين عاماً، أوجز في خطابة وعوّض عن كل المعاني بدلالات الأمكنة وخلفيات المشوار الطويل، الذي مشاه حافياً على جسور الشوك مُهتدياً بضوء الموهبة التي جمع فيها بين الكتابة الأدبية، والإبداع السينمائي، فهو خليط من ثقافة مُتنوعة امتزجت فيها السياسة والصحافة بالسينما والقصة القصيرة، فصار مالكاً لأدواته ثرياً في لغته مُرهفاً في إحساسه.
ولد نصري حجاج في مُخيم عين الحلوة عام 1951 فأبوه من قرية الناعمة في فلسطين وأمه لبنانية الأصل، وقد انخرط في صفوف الثورة الفلسطينية مُبكراً فاكتسب خبرات سياسية واسعة انعكست بعد ذلك في أعمالة الأدبية القصصية وأفلامه التسجيلية والقصيرة، إذ اعترف هو نفسه بأنه دخل عالم السينما من بوابة القصة القصيرة، التي لم يستمر في كتابتها طويلاً، حيث هوى السينما فاستغرق فيها ولم تترك له مجالاً للإبداع القصصي، لاسيما أنه انتقل للدراسة في بريطانيا وأبعد منها بعد استكمال دراسته مباشرة، فجاب بعض عواصم العالم طولاً وعرضاً، لكن ظلت لتونس مكانة خاصة في قلبه النابض بحب فلسطين والبقعة العربية الخضراء. وظل نصري حجاج يتحرق شوقاً للقرى والمُدن الفلسطينية، وما بين نوبات الشوق والشوق، كان يُطفئ نار اللهفة والفراق، ببعض الإبداعات، ولعله نجح تماماً في ترجمة إحساسه الصادق حين فرّغ كل مشاعر الحنين إلى الوطن والأصدقاء والبيوت القديمة والشوارع والمزارع والحارات، فأنجز فيلم «الحقل القرمزي» عام 2015 وفيلمه الأهم «ظل الغياب» الذي شكل بانوراما شاملة عن حياة من سبقوه إلى الموت، إذ ضمّن البانوراما الإنسانية الشجية، مواقف وأزمنة وأبعاداً وسيراً ذاتية لأولئك الذين رحلوا وفوق شفاههم رحيق فلسطين.
وفي ظل الغياب لم يعتن حجاج كثيراً بلغة الرثاء، ولم يُخصص لها حيزاً ولا هامشاً واسعاً من المساحة الدرامية، لكنه أمعن في طرح قضية أكثر قوة وحضوراً، ألا وهي حكمة الغياب والابتعاد والنفي خارج البلاد، إذ كرر طرح السؤال الحائر الباحث عن إجابة بلا جدوى بين أوراق الساسة والمفاوضين والوسطا،ء والشركاء.. لماذا تحمل فلسطين وحدها وزر العالم وأخطائه التاريخية، ولماذا هي بالذات غنيمة المُغتصب؟
حياة في المنفى
وما بين المنفى والموت دارت فكرة الفيلم الفلسفية وبرزت النماذج والشخصيات التي استوحى منها البداية، ففي فناء إحدى المدارس الابتدائية تم دفن أربعة شبان من المُقيمين في مخيم عين الحلوة، حيث لم تسمح السُلطات الإسرائيلية بدفنهم في مقابر عائلاتهم، فاضطر ذووهم لدفنهم في المدرسة، ومن هنا جاء الامتداد الدرامي والواقعي لخط الفيلم الرئيسي، فعمد المخرج الراحل نصري حجاج إلى تضمين الشخصيات والزعامات الكبرى داخل السياق العام ليفضح نذالة الكيان الصهيوني، الذي نفى الفلسطيني خارج أرضه ووطنه حياً وميتاً، بينما سن قانوناً يسمح بدفن الإسرائيلي الذي يعيش خارج إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، التي تم الاستيلاء عليها والمُسماة زوراً وبهتاناً بدولة إسرائيل. وكانت إمارات ذلك الفضح مُتمثلة في القامات التي استُشهدت، أو ماتت وحظرت إسرائيل دفنها في بلادها وتحت ترابها، فمن بين ما أثار جدلاً واسعاً في هذا الخصوص رحيل رسام الكاريكاتير الشهير ناجي العلي، الذي مات ودُفن في لندن، ومثله الشاعر معين بسيسو، لم يُدفن في غزة مسقط رأسه وموطنه، وإنما دُفن في مصر بوصفها الأقرب إلى غزة، وكذلك الرئيس ياسر عرفات لم تسمح سلطات الاحتلال بدفنه في القدس وفق وصيته!
وعلى هذا ظل الموت في فيلم «ظل الغياب» هو الملمح الرئيسي الدال على الموضوع، وشاهد الإثبات الصادق على الصلف الإسرائيلي وفلسفة التغييب القسري للحقيقة وظلالها، من خلال محاولات النفي الدائمة للرموز الفلسطينية التي شملتها الرؤية السينمائية، فجمعت بين أبطال المقاومة وأبطال الفكر والقلم، كالحاج أمين الحسيني ومحمود الهمشري وكمال ناصر وراشد حسين وإدوارد سعيد وإميل حبيبي، بالإضافة إلى المذكورة أسمائهم سلفاً.