لم تشهد الولايات المتحدة الأمريكية في تاريخها المعاصر هزيمةً تضارع خروجها المهين والمدوّي من أفغانستان. بعض المراقبين في أمريكا وأوروبا يتوقع ألاّ يتوقف الخروج على انسحاب القوات العسكرية من أفغانستان، بل أن يتمدد إلى انسحاب «القوات السياسية» من البيت الأبيض، بمعنى خروج الرئيس جو بايدن منه. الخروج السياسي حاصل لا محالة، إن لم يكن في المستقبل المنظور ففي الانتخابات النصفية بعد بضعة شهور
إلى ذلك، لن يقتصر خروج الولايات المتحدة من أفغانستان فحسب، أفغانستان هي بوابة الخروج من منطقة غرب آسيا برمتها: من شواطئ بحر قزوين في الشرق إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط في الغرب. ليس أدل على بدء الانسحاب الأمريكي من آثاره وتداعياته على دول غرب آسيا. «إسرائيل» استشعرت مخاطر الانسحاب على أمنها القومي، فشدّ رئيس حكومتها نفتالي بينيت رحاله إلى واشنطن ليتدبر مستقبل الكيان الصهيوني، في غمرة تنامي حركات المقاومة ضده في أربع جهات الأرض
الدول الأخرى الصديقة للولايات المتحدة سارعت بدورها إلى تدوير زوايا خلافاتها وعقدت على عجل قمة للتعاون والشراكة في بغداد
غير أن أعتى المشكلات تلك القائمة والمستفحلة بين الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبيات. إنها مشكلة اللاجئين والفارين بعشرات الآلاف من أهالي أفغانستان الذين تعاونوا مع القوات الأمريكية والقوات الأوروبية الأطلسية، خلال السنين العشرين من الاحتلال الأمريكي للبلاد
بريطانيا أعلنت انها لن تستقبل أكثر من عشرين ألفاً. النمسا أعلنت أنها لن تستقبل أحداً. أنغيلا ميركل تحاور وتناور كي لا تُفرض على ألمانيا أكبر الحصص الأوروبية. في غرب آسيا، تواجه الولايات المتحدة مشكلات ونزاعات مع حلفائها، كما مع خصومها
أبرز الحلفاء تركيا التي لها مخططاتها الخاصة في العراق وسوريا وليبيا، فضلاً عن أفغانستان ذاتها. ففي العراق تقاتل تركيا بعض فصائل حزب العمال الكردستاني التركي، التي انكفأت إلى جبال قنديل العراقية، حيث تنطلق منها لمقاتلة الجيش التركي. في سوريا، تسيطر تركيا على مناطق واسعة في شمال البلاد وغربها، كما تقاتل قوات «قسد» الكردية السورية، التي تسيطر، بدعم من القوات الأمريكية المنتشرة في مناطق شرق الفرات، على مكامن النفط والغاز، باختصار، أمريكا تواجه تركيا في سوريا حيناً وتتعاون معها حيناً آخر
أمريكا تبدو حريصة على عدم التخلي عن حلفائها الإقليميين، ولاسيما في وجه كلٍّ من إيران وتركيا
إنها تعادي الحكومة المركزية في دمشق، وتتعاون مع الأتراك والأكراد في كل ما من شأنه إضعافها. إلى ذلك، ثمة نزاع شديد وقديم بين أمريكا وإيران. صحيح أن واشنطن في عهد الرئيس أوباما وقعت اتفاقاً نووياً مع طهران، لكن الرئيس ترامب أقدم سنة 2018 على إخراج أمريكا منه، ما أدى، بعد فوز جو بايدن، إلى عودة البلدين وسائر الدول الموقعة على الاتفاق النووي سنة 2015 إلى الانخراط في مفاوضات متطاولة يصعب التكهن بموعد انتهائها، خصوصاً بعد خروج أمريكا المهين من أفغانستان
غير أن الجانب الأكثر حساسية في علاقات الولايات المتحدة مع حليفاتها، هو ذلك المتعلّق بدول الخليج، فواشنطن تساند السعودية في حربها اليمنية، وتدعم عملية التطبيع بين «إسرائيل» وبعض دول الخليج. ولا يمكن التكهن بما ستكون عليه سياستها في هذا المجال بعد خروجها من أفغانستان، واتجاه دول الخليج إلى تحسين علاقاتها مع إيران
باختصار، خروج الولايات المتحدة من أفغانستان يضعها أمام تحديات شتى في مستقبل علاقاتها مع دول غرب آسيا، إلاّ انها تبدو حريصة أيضاً على عدم التخلي عن حلفائها الإقليميين، ولاسيما في وجه كلٍّ من إيران وتركيا. خلال هذه المرحلة الانتقالية، ستشتد الصراعات السياسية بين الولايات المتحدة من جهة وحلفائها الإقليميين من جهة أخرى، كما ستشتد الصراعات السياسية، وربما الأمنية ايضاً، بين حلفائها الإقليميين أنفسهم، الأمر الذي يمنح الدولتين الأقوى بينها ـ إيران وتركيا ـ هامشاً واسعاً من حرية العمل والمناورة. أما داخل دول غرب آسيا التي تعاني اضطرابات أمنية ونوازع انفصالية، فإن سياسة الولايات المتحدة ستبقى في الغالب على ما هي عليه: دعم الحركات الانفصالية في العراق وسوريا واليمن، وذلك في سعيها إلى إقامة أنظمة سياسية فيدرالية أو كونفدرالية، على حساب الوحدة الوطنية والسياسية لتلك الأقطار، الأمر الذي يخدم سياسة «إسرائيل القديمة الجديدة التي تهدف إلى تصديع المحيط العربي حولها وإضعافه بإقامة جمهورية موز على أساس قَبَلي أو مذهبي أو إثني. كيف ستردّ حركات المقاومة؟