لقد هزت تونس، مهد ما يسمى بالربيع العربي ركائز السلطة في منطقة شاسعة واستراتيجية، ولا أحد يعرف متى وكيف سيعود الاستقرار ليسود هذه المنطقة، وهل سيعود ذات النظام الاستبدادي القديم أم سيولد نظام جديد لم يبصر النور بعد؟
وأصبح هذا السؤال أكثر إلحاحاً بعد 25 يوليو/ تموز، حين فاجأ الرئيس العلماني قيس سعيد، العالم بإعلانه تعليق عمل البرلمان وإقالة رئيس مجلس الوزراء وتوليه سلطات استثنائية، مبرراً ذلك بوجود تهديد وشيك للدولة التونسية.
من المفترض أن تستمر هذه الإجراءات الاستثنائية لمدة 30 يوما، لكن لا أحد يعلم حتى الآن ما إذا كان الرئيس سيمدد هذه الإجراءات أم أنه سيتخذ إجراءات غيرها.
ما حدث لم يكن مفاجئاً للمهتمين بالشأن التونسي، فقد كان الطفل البكر لربيع الثورات العربية يسير بلا توقف نحو الهاوية.
التوق لرجل قوي
لقد دفع الركود الاقتصادي (تقلص الاقتصاد بنسبة 8 في المئة العام الماضي) والبطالة المتزايدة (المقدرة بنحو 17 في المئة) والطبقة السياسية المنقسمة، عدداً متزايداً من التونسيين للاعتقاد بأن الديمقراطية لا توفر لهم ما يصبون إليه.
أضف إلى ذلك التأثير المدمر لجائحة كورونا، حيث أن معدل الوفيات الناجمة عن الجائحة في تونس هو الأعلى على صعيد القارة الأفريقية.
كل هذه العوامل خلقت لدى قطاع كبير من التونسيين شعورا باليأس وفقدان الثقة في البرلمان والأحزاب السياسية.
وهذا يفسر قبول الإجراءات الصارمة التي اتخذها الرئيس بارتياح في الشارع. لقد سئم أنصار الرئيس من البرلمان وكانوا يتوقون إلى شخصية وربما إلى رجل قوي يمكنه حل أزمة البلاد.
لكن هل الرئيس سعيد قادر على إصلاح البلاد؟ فقد حذرت مجلة الإيكونوميست في افتتاحيتها الأخيرة من أن "الرجل القوي ليس هو الحل لمشاكل تونس".
المستبدون يفرحون
بالطبع لم يكن الجميع في تونس سعداء وعلى رأسهم حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي، والتي تملك الكتلة الأكبر في البرلمان.
وشجبت الحركة ما قام به الرئيس ووصفته بأنه انقلاب، ويوافق المراقبون المستقلون وأطراف أخرى على هذا التوصيف.
على الصعيد الإقليمي، كان الحكام المستبدون من الوطن العربي يفركون أيديهم فرحاً ولم يتأخروا في التعبير عن دعمهم لسعيد، أما انصار الديمقراطية فيخشون وقوع الأسوأ ودقوا ناقوس الخطر.
المادة 80 من الدستور التونسي التي قال الرئيس أنه استند إليها في خطواته الدرامية، تمنحه الحق في اتخاذ إجراءات استثنائية في ظل ظروف استثنائية.
لكنها لا تذكر في نصها أن له الحق في تعليق عمل البرلمان وإلغاء الحصانة البرلمانية لجميع أعضائه وإقالة الحكومة. لهذا السبب خلص الكثيرون إلى أن سعيد قام بنوع من "الانقلاب".
لكن هذا التوصيف لا ينطبق تماماً على خطوات الرئيس لأنه ليس جنرالاً عسكرياً، وانتخب في انتخابات حرة ونزيهة عام 2019.
تنقسم الآراء بين أولئك الذين يعتقدون أن الشرعية تنبع فقط من الدستور، وأولئك الذين يعتقدون أن الناس هم الحكم النهائي.
ومع ذلك في أوقات الأزمات الشديدة، تصبح الحدود بين ما هو قانوني بحت وما هو سياسي غير واضحة.
في الوقت الحالي يمكن القول إن الرئيس يتمتع بتأييد الشارع إن جاز التعبير.
لكن لا أحد ينكر أن هذا منحدر خطر يمكن أن يمثل نهاية العملية الشاقة لانتقال البلاد إلى حكومة أكثر تمثيلاً.
شبّه الكثير من المعلقين ما حدث في تونس بما جرى في مصر عام 2013 عندما أزاح عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع والرئيس الحالي آنذاك، الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي، عن السلطة وسط فرحة حشود غفيرة في الشوارع، في مشاهد شبيهة بما شهدته تونس بعد بيان الرئيس سعيد.
ولكن هناك اختلافات جوهرية، فقد تم انتخاب سعيد بحوالي 70 في المئة من أصوات الناخبين، ولم يلعب الجيش أي دور رئيسي في السياسة التونسية، بينما في مصر هو حجر الأساس في الدولة منذ ما يقرب من 70 عاماً.
وهناك اختلاف جوهري آخر في أوضاع البلدين، ففي تونس هناك حركة نقابية قوية ومنظمات مجتمع مدني فاعلة.
عشر حكومات في 10 سنوات
لذلك ستكون الأنظار موجهة ليس لسعيد فقط بل أيضاً إلى المنظمات الأربع المعروفة باسم الرباعية للحوار الوطني، التي قادت في عام 2013 الوساطة بين الإسلاميين وخصومهم العلمانيين، مما جنب البلاد الاستقطاب والانقسام السياسي الذي طال أمده، وقد نالت الرباعية جائزة نوبل للسلام عام 2015 عن تلك الجهود.
وهناك دعوات للحوار الوطني، لكن من الصعب تخيل عودة البلاد إلى ما كانت عليه دون تغييرات في النظام الذي أوصل تونس إلى هذه الأوضاع.
يعتقد البعض أن الخلل يكمن في الدستور الذي أنشأ عدة مراكز للسلطة: الرئيس ورئيس الوزراء والبرلمان.
في عالم مثالي يجب أن يؤدي ذلك إلى إقامة نظام سياسي متوازن ويضمن وجود ضوابط وآليات تمنع سيطرة الرئيس، لكن في مجتمع شديد الاستقطاب كحالة تونس أدى ذلك إلى إصابة البلاد بحالة شلل.
وحتى قانون الانتخاب ساهم في الفوضى التي تعيشها البلاد، حيث أعطى مقاعد نيابية لعدد كبير من الأحزاب الصغيرة الأمر الذي زاد من تشظي المشهد السياسي المنقسم على نفسه أصلاً. وكانت المحصلة النهائية أن البلاد عاشت في ظل عشر حكومات في عشر سنوات.
مع تراكم المشاكل وخاصة مع خروج فيروس كورونا عن السيطرة انهار النظام، فقد كان الرئيس أحياناً يعيق عمل البرلمان والعكس بالعكس، وكل طرف كان يفسر نص القانون ليناسب مراميه.
وما يحدث في تونس ستكون له تداعيات في الخارج كما أثبتت تجربة العقد الماضي.
يأمل الحكام الاستبداديون في المنطقة أن يمنحهم ما وقع في تونس المزيد من المبررات ليقولوا: "إن الديمقراطية لا تناسب الشعوب العربية" بينما سيظل دعاة الديمقراطية يأملون في بقاء تونس منارة لشعوب المنطقة.
فهل يمكن للبلد الذي منح العالم العربي شعار الثورة الذي لا يُنسى "الشعب يريد إسقاط النظام" قبل عشر سنوات، أن يكتب شعار موت الثورة ودفنها والكتابة على ضريحها " الشعب لا يستطيع أكل الديمقراطية" كما قالت امرأة تونسية غاضبة ذات يوم؟